Skip to content

Commentaries
Arabic
أعمال الرسل
  
9 - العظة الوداعيّة أمام الأساقفة والشيوخ
(20: 17 - 38)
20:17وَمِنْ مِيلِيتُسَ أَرْسَلَ إِلَى أَفَسُسَ وَاسْتَدْعَى قُسُوسَ الْكَنِيسَةِ18فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ:"أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَّوَلِ يَوْمٍ دَخَلْتُ أَسِيَّا، كَيْفَ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ الّزَمَانِ،19أَخْدِمُ الرَّبَّ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ وَدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَبِتَجَارِبَ أَصَابَتْنِي بِمَكَايِدِ الْيَهُودِ20كَيْفَ لَمْ أُؤَخِّرْ شَيْئاً مِنَ الْفَوَائِدِ إِلاَّ وَأَخْبَرْتُكُمْ وَعَلَّمْتُكُمْ بِهِ جَهْراً وَفِي كُلِّ بَيْتٍ،21شَاهِداً لِلْيَهُودِ وَالْيُونَانِيِّينَ بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللّهِ وَالإِيمَانِ الَّذِي بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ22وَالآنَ هَا أَنَا أَذْهَبُ إِلَى أُورُشَلِيمَ مُقَيَّداً بِالرُّوحِ، لا أَعْلَمُ مَاذَا يُصَادِفُنِي هُنَاكَ23غَيْرَ أَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ يَشْهَدُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ قَائِلاً: إِنَّ وُثُقاً وَشَدَائِدَ تَنْتَظِرُنِي24وَلكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلا نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حتّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللّهِ.


توقّفت سفينة بولس في ميناء ميليتس فطلب الرسول إلى شيوخ الكنيسة والمسؤولين في أَفسس ومحافظتها آسيا، أن يأتوا إليه، رغم أنّ المسافة ستون كيلو متراً بين بلدهم والميناء ميليتس، لأنّ زياراته إلى أفسس لم يرها حكيمة بعدما شاغب ضدّه الشعب هناك علانيّة. والإخوة الأمناء أسرعوا إليه، ليروا أباهم الرّوحي في المسيح، ويستمعوا إليه وينالوا مِنه البركة والقوّة الإلهيّة لخدمتم في الرّوح القدس.
وقد حدَّثَنا لوقا بهذه المناسبة عن العظة الفريدة في أعمال الرسل الّّتي ألقاها بولس على زملائه في الخدمة، وعلى المسؤولين في الكنائس. وَخَيْرٌ لكلّ مؤمن خادم للمسيح أن يتعمّق بكلّ كلمة في هذا الخطاب، لأنّه يتضمّن الإرشاد لخدمة مثمرة في التبشير والكنيسة. وأظهر بولس لنا فيها ثلاثة أُمور:

1 - كيفيّة خدمته
2 - مضمون كرازته
3 - إيضاح الرّوح القدس للمستقبل

لقد كان بولس سفير المسيح لكلّ الأمم، لكنه أتى خادماً متواضعاً بسيطاً، مثلما كان المسيح وديعاً ومتواضع القلب. وكلُّ مَن لا يأتي بهذا المبدأ إلى الكنيسة، ولا يقوم بهذه الفضائل في خدماته ووظائفه، فإنّه يهدم ولا يبني.
مع العلم أنّ وجهة خدمة خدّام الرّبّ ليست الكنيسة أولاً، بل الرّبّ نفسه الّذي أمامه هم مسؤولون، وإيّاه يحبون، ويريدون أن يقدّموا له الكنيسة كعروس مقدّسة. وهذه الخدمة ليست لذيذة كلحس العسل، بل تعني تحرير الأسرى مِن قيود الخطايا، وتطهير الساقطين في أوحال الإِثم، واحتمال المعاندين الثائرين، وهداية الأطفال في الإيمان بصبر فائق، ومباركة الأعداء الّذين يضطهدونهم. والشَّيطان يقصد أوَّلاً خُدَّام الرّبّ ليسقطهم مِن علو المحبّة إلى وحل الزِّنا والبغضة والكراهيّة بواسطة التَّجارب والحيل والعنف. فلذلك يشهد بولس لخدّام الرّبّ أنّ دموعاً كثيرة وأَسىً وحزناً هي شعار الخدمة، وليس ثماراً وفرحاً وتمتّعاً واستراحة. فمَن يُرِدْ خدمة الرّبّ يجب أن يستعدّ للضيقات والرفض والخصام وليس لزيادة المعاش أو التكريم أو الأوهام والخيالات الروحية الجامحة.
مثَّل بولس في شخصيته التعليم المسيحي أمام الكنيسة، فعاش ما قال، وسلك حسب تبشيره. فكانت قدوته خلاصة بشارته، وأعماله مهمة ككلماته. مما يدلّنا على أنّ سلوكنا في محيطنا هو شهادةٌ واضحةٌ لفداء المسيح ومحبّته وقدرته. فكلّ ما ليس متجسّداً فيك، لن يفهمه مستمعوك مِن كلامك، فسلوكك هو الأساس لتبشيرك.
واتّبع بولس في عرض معاني بشارته ثلاثة أساليب، وهي: التَّبشير والتَّعليم والشَّهادة. فوجد لكلّ إنسان الكلمةَ المناسبةَ، حسب قدرته على الإدراك، فلم يُعطِ الأطفال في الرّوح طعاماً مكثّفاً بل حليباً ولبناً، ليستطيعوا فهم بشارته وهضمها. ولكنّ الغاية الأخيرة في شهادته هي نُموُّ المؤمنين في المسيح، وأن يفهموا مع الوقت كلّ معاني كلمة الله، ولا ينقصهم فيتامين واحد لإنشاء الحياة الرّوحيّة فيهم. فلم يخبّئ بولس شيئاً مِن ملء المسيح، بل أعلن للكنيسة خطّة خلاص الله الشاملة، مبتدئاً بالوعود والنعم والإمكانيات الرّوحيّة، وأرشد المؤمنين إلى البركات والقوى والتّعزية، وحثَّهم على الرجاء، والاستعداد لمجيء المسيح، والمجد المقبل على منكسري القلوب.
ولم يكتف بولس بعظاته أثناء اجتماعات الكنيسة، بل زار العائلات في بيوتها، وتكلّم مع الأفراد في مهنهم أو في الشوارع، وأقنعهم ليتخلّصوا مِن غضب الله، ويثبتوا في نعمة المسيح.
كان الموضوع الأوّل في عظة بولس التوبة والرجوع إلى الله وتغيير الذهن، لكيلا يحب طلاّب الله فيما بعد أموالهم وأنفسهم، بل يتعمّقوا في القدّوس ويدرسوا إرادته، ويدركوا خطاياهم ويعترفوا بعيوبهم ويخجلوا لأجل فضائحهم، فلا يكون الإيمان حقيقيّاً بدون توبة عميقة، ولا تحقيق غفران بدون معرفة الخطايا. فهل ارتجفت مِن نفسك، واشمأززت مِن ماضيك؟ هل تخاف الله؟ وهل تنكر نفسك، وتعترف بذنوبك أمام القدّوس، وتعيش باستمرار في توبة وانكسار؟
إنّ الهدف الأوّل لمعرفتنا بالله هو انكسار أنانيتنا المنتفخة، وأمّا الهدف الثاني فهو التجاؤنا إلى المسيح، لأنّه لا رجاء للعالم لا حاضراً ولا مستقبلاً إلاّ في المسيح يسوع. وهذا الاتحاد بالمسيح هو إيماننا الّذي يبتدئ بسماعنا عن شخصيته، واهتمامنا به، واقترابنا مِنه، وثقتنا فيه، وتسليمنا إليه، وثباتنا بشخصه، وترقبنا لمجيئه. عندئذٍ ندرك أنّنا قبل أن نطلبه فكّر هو فينا، وصالحنا مع الله، وانتظر رجوعنا، وجذبنا إليه في محبّته، وقَبِلنا نحن الضّالين، فطهّرنا، وقدّسنا، وملأنا بروحه القدّوس، وأدخلنا في شركة القدّيسين، ودعانا إلى خدمة الله. فنجد في إيماننا بالمسيح حركةً مزدوجة: ذهابنا إليه، ومجيئه إلينا. فهل التقيتَ المسيحَ شخصيّاً، وثبتَّ في العهد الجديد؟ إنّه مستعدٌّ أَن يخلِّصك، فهل أنت مؤمنٌ به؟
سمّى بولس نفسه مقيّداً بالرّوح القدس، لأنّه استغنى عن حرّية حياته الدنيويّة، وعاش في المسيح ولأجله، فلم يذهب في طرق خاصّة، بل أصغى دائماً إلى إرشاد الرّوح القدس. وهذا المرشد الإلهي الّذي أرسله إلى أورشليم، قال له مسبقاً إِنَّه سينتظره هناك ضيقٌ أليم في نهاية سيرته الرسوليّة، كما تألَّم ربُّه بنهاية حياته في أورشليم فلم تكن نتيجة عمله وثمره المكافأةَ والاحترامَ، بل ضَرباتٍ وسجناً واحتقاراً.
لم يهرب بولس مِن الكارثة المقبلة عليه، بل تقدّم إليها واعياً ولم يعتبر نفسه شيئاً، ولم يكتب سيرة حياته، ولم يجمع اختباراته، بل اعتبر نفسه باطلاً، واتّكل على عمل الرّبّ الحيّ اتّكالاً كليّاً ليت الرّبّ يمنحنا هذا الموقف في حياتنا، لنعتبر أنفسنا بطّالين، فيصبح هو الكلّ فينا.
وإلى جانب هذا الإنكار الذاتي قصد بولس كذلك شيئين آخَرين وهما: أوَّلاً: أن يبقى في التجارب المقبلة عليه أميناً لربّه، ولا يقع في ذنوب وبغضة، بل يحب أعداءه ويغفر تعدّيهم عليه، ويكمل سيرته بالقداسة والنّعمة. ثانياً: لم يكتف بإكمال الأمانة في سيرته الخاصّة، بل أراد إكمال خدمته المقدّسة أيضاً، لأنّه لم يعش لذاته، وإنّما لربّه وكنيسته. فلم يطلب بولس هذه الخدمة لنفسه ولم يقدر على تنفيذها، بل المسيح اختاره ومنحه القدرة على القيام بواجباته.
فماذا كانت خلاصة حياته في الخدمة؟ لم تكن إلاّ الشهادة بالنّعمة! فالله القدّوس لم يغضب علينا منذ برّرنا المسيح؛ بل أظهر نفسه أباً لنا، واهباً الرّوح القدس مجّاناً لكلّ الّذين يحبّون يسوع، جاعلاً مِن الخطاة الفاسدين أولاداً له في القداسة. أليست هذه نعمة، نعمة حقّة؟

الصَّلَاة
أيّها الآب السماوي، نسجد لك بفرح وشكر وحمد، لأنّك لم تهلكنا لأجل خطايانا العديدة، بل رحمتنا بيسوع المسيح وجعلتنا أولاداً لك بالنّعمة. فساعدنا لنسلك كما يحقّ للنعمة، ونبشّر بفضائلك كلّ عديمي الرجاء.
السُّؤَال
ما هي كيفية ومضمون وخلاصة كرازة بولس الرسول؟