Skip to content

Commentaries
Arabic
كولوسي
  
1- تعريف المرسلين والبركة الرسولية
(كُوْلُوْسِّيْ 1: 1- 2)
بُولُسُ رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتِيمُوثَاوُسُ الأَخُ إِلَى كَنِيْسَةِ اللهِ الَّتِي فِي كُوْرِنْثُوْس مَعَ الْقِدِّيسِينَ أَجْمَعِينَ الَّذِينَ فِي جَمِيعِ أَخَائِيَة (1:1


عرّف بولس نفسه في هذه الرِّسَالَة باسمه اليوناني الَّذي يعني الصغير. كان اسمه في الأصل شاول الَّذي يعني: (المستجاب مِن الرَّبّ) وهو اسم الملك الأوَّل في أبناء يعقوب مِن سبط بنيامين (صموئيل الأول الإصحاح 9 إلى 31).
لم يشأ بولس أن يُقدِّم نفسه كمُعظِّم لملكه السابق، لأنّه عاين يسوع في جلاله المجيد أمام دمشق، فأصبح أعمى ثلاثة أيام وانكسر في كبريائه. درس كأجنبي في أورشليم شريعة موسى عند قدمي العلاَّمة غَمَالاَئِيل. واضطَهد بَعْدَئِذٍ بتعصُّبٍ المسيحيين في عاصمته وعذبهم وقتلهم حتى عارضه يسوع الحي في بهاء مجده. وتغيَّر بهذه الرؤيا فهمه للعهد القديم والعيش التقليدي بموجبه. لقد رأى نفسه مجرماً تجاه الله وسمّى ذاته أكبر الخطاة (تيموثاوس الأولى 1: 15). إنّما ملك السماء كلّمه شخصياً وأنعم عليه بمواجهته ودعاه رسولاً للأمم المحتقَرة. فأدرك بولس أنّ أمانته لشريعة موسى وأعماله الصالحة لم تنفعه البتّة بل إنَّ برّه الخاص مبني على نعمة ربّه يسوع وحده. وأدرك أيضاً أنّ المقام مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ وكنيسته وحدة روحيّة لن تنفصم، وأنّ كلّ ضغط واضطهاد لأتباع المسيح هو تَعَدٍّ على الرَّبّ نفسه، وهذه المبادئ الثلاثة كوّنت رسالة الصغير.
أوّلاً: يسوع المصلوب حيٌّ ولم يتفتّت في القبر.
ثانياً: هو يبرّر الخطاة بالنعمة وليس بحفظ الشرائع.
ثالثاً: هو وكنيسته وحدة أبديّة. هو رأسها وهي جسده الرّوحي.

الرسول
دُعي بولس رسولاً مِن يسوع المسيح المقام مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ الَّذي أمر حنانيا البسيط أن يجهزّه بقوّة الرّوح القدس. (أَعْمَال الرُّسُلِ 9: 10- 18) رافقه المؤمنان المختبران برنابا وسيلا كشريكَين في خدمة الرَّبّ ومُصلِّيَيْن بالتناوب في خدمته بين الشعوب في شرق البحر المتوسط.
وكتب بولس ثلاث عشرة رسالة مِن رسائله المحفوظة، تحدَّث فيها أربع عشرة مرّة عن ملكوت الله، وأربعاً وثمانين مرّة عن كنيسة المسيح (اكلسيا) المدعوين لخدمته مِن بين الآخرين.
ونقرأ اسم يسوع مئة وتسعين مرّة، لأنه أهمّ وأعزّ مِن أيِّ اسمٍ أو موضوعٍ آخَر في بشارته. كان يسوعُ ربَّه الحي ومخلّصه ومرشده ومقوّيه، فانتظر عودته بشوقٍ. مجّد بولس ربّه قولاً وعملاً بشغله اليدوي وبصبره في الاضطهاد والأخطار. كان يسوع السبب والمحور والهدف لبولس في رسالته. وكان بولس رسوله الأمين والمفوّض لدى الأمم، فعمل بقوة وسلطة وقدرة اسمه.

الصلاة: نُعَظِّمك أيّها الآب السماوي لأنّ ابنك الحيّ دعا بولس مضطهد كنائسه حسب مشيئتك ليكون شاهداً لنعمتك وقوّتك ومحبتك، ونشكرك لأنّ كلماته تصلنا حتّى اليوم وتنعشنا وتقوّينا. ساعدنا على أن نتغيَّر، نحن الفاشلين والغير المستحقين، بنعمتك وأن نقبل الخدمة الموكلة إلينا في محيطنا باسم المسيح. آمين.

مَن هو المسيح؟
إنّ معنى اللَّقب "المسيح" في العبرانيَّة هو المسيّا أي الممسوح بالروح القدس. وكانت لهذا اللقب أهمّيةٌ خاصة في هذه الرِّسَالَة، لأنّ المؤمنين بالمسيح مِن أصل يهودي كانوا يعتبرون موسى في بعض الأحيان أعلى مِن يسوع، فتمسّكوا بشريعته وبتطبيقها أكثر مِن تمسُّكهم بنعمة المسيح. وقد فسَّر يسوع لقبه في مدينته الناصرة عندما قرأ (سفر إِشَعْيَاء 61: 1- 2) في الهيكل واعترف قائلاً:"روح الرَّبّ عليّ ..." حتَّى "نعمة الرَّبّ المقبولة". وعندما سلّم السفر إلى الخادم جلس وجميع الأعين في الهيكل شاخصةٌ إليه، وقال لهم: "لقد تمَّ هذا المكتوب في السفر في مسامعكم" (لوقا 4: 18- 21).
تختلف التَّرجمة اليونانيَّة (السَّبعونية) للعهد القديم في بعض عباراتها عن النصّ الأصلي لسفر النَّبي إِشَعْيَاء، ولكنَّها تحتفظ بالمضمون نفسه. لقد قرأ يسوع الجملة الأخيرة جزئياً، وترك العبارة عن يوم انتقام إلهنا، لأنّ هذا الكلام لا يتحقَّق في مجيء المسيح الأول للخلاص، بل في مجيئه الثاني للدينونة.
كان الملوك والكتبة والأنبياء، في العهد القديم، يُمسَحُون بزيت الخلاص وقوّة الله لتنفيذ خدماته باسم الرَّبّ. لاويين 2: 12؛ سفر عدد 35؛ 25؛ صموئيل الأوّل 16: 13؛ صموئيل الثاني 5: 3 ألخ
وأمَّا يسوع فمُسح بعد معموديته في الأردن مِن الله أبيه مباشرةً (مزمور 45: 7 و8؛ متَّى 3: 16- 17؛ عِبْرَانِيِّيْنَ 1: 9). لذلك المسيح هو ملك الملوك وربّ الأرباب (متَّى 28: 18؛ تيموثاوس الأولى 6: 15؛ رؤيا يوحنَّا 5: 6- 12؛ 17: 14؛ 19: 16) لأنّه رئيس الكهنة الحقّ الَّذي بذل نفسه كحَمَل اللهِ كفّارة عن خطاة العالم (عِبْرَانِيِّيْنَ 2: 17 و18؛ 4: 14- 16؛ 6: 20؛ 7: 26؛ 10: 14 ألخ). والمسيح هو أيضاً كلمة الله المتجسّد الَّذي يجمع في ذاته جميع النبوّات السابقة (يوحنَّا 1: 1- 3 و14؛ يوحنَّا الأولى 1و2؛ رؤيا يوحنا 19: 13). ويملك المسيح أرواح الله السبعة (إِشَعْيَاء 11: 2؛ متّى 12: 18؛ رؤيا يوحنا 5: 6).
أدرك بطرس كأوّل تلميذٍ هذه الحقيقة، واعترف قبل الآخرين قائلاً: أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ فأجابه يسوع قائلاً: طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ لَكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاواتِ (متَّى 16 عدد 16 و17).
أمَّا بولس فكتب إِلَى الكَنِيْسَةِ في روما: لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ لأَِنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ. لأَِنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ لإِيمَانٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا (رومية 1: 16 و17).

الصلاة: نُعَظِّمك أيّها الرَّبّ يسوع لأنك شهدتَ للقبك في كنيس النَّاصرة وفسَّرتَه. أنت ربّ الأرباب وتملك إلى الأبد. ساعدنا على أن نخضع حقا،ً وامسحنا بروحك القدوس حتَّى نمجّدك على الدوام. آمين.

يسوع
لم يُعيَّن اسم يسوع مِن الناس، بل مِن الله بواسطة ملاكه جِبرَائِيل (متّى 1: 21 ولوقا 1: 31؛ 2: 21). ويعني هذا الاسم أنَّ الرب يعين ويخلّص وينتصر، كما شهد الملاك: "أنّه يخلّص شعبه مِن خطاياهم". (متَّى 1: 21) ويرد هذا الاسم، الَّذي يفوق جميع الأسماء، 975 مرّة في العهد الجديد، وهو أهمّ كلمة في الإنجيل. فاسم يسوع فريد لأنّ فيه يتمركز الخلاص لجميع الخطاة، والقدرة على شفاء أمراضنا، والسلطان لطرد الأبالسة (أَعْمَال الرُّسُلِ 3: 6؛ 4: 12؛ 16: 18 ألخ).
وتخبرنا ترنيمة قانون الإيمان في رسالة بولس إلى أهل فيلبي بمضمون ومعنى اسم يسوع:

"فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً,الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللَّهِ, لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ.لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ,آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ, صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ, وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللَّهُ أَيْضاً, وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ, وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللَّهِ الآبِ."
(فيلبي 2: 5- 11).

كثيراً ما نقرأ في تاريخ الكنيسة عن خلافاتٍ حول طبيعة ابن مريم، فنعترف مع نصوص الكتاب المقدّس أنّ يسوع هو إله حقّ وإنسان حقّ. والعجيب أنَّ الشَّيطان والأبالسة عرفوا اسمه وأدركوا قداسته (متَّى 4: 3 و6؛ 8: 29؛ مرقس 3: 11؛ 5: 7؛ لوقا 4: 3و9و41؛ 8: 28؛ أَعْمَال الرُّسُلِ 19: 15 ألخ ...).
وأعداؤه وأصدقاؤه رفضوا ألوهيَّته أو اعترفوا بها (متَّى 26: 63؛ 27: 37، 39 إلى 43 و54؛ لوقا 3: 23؛ 4: 22؛ يوحنا 1: 14 و34 و45و49؛ 3: 16؛ 11: 27؛ 20: 31 ألخ).
أمّا الله وملائكته فاعترفوا بوضوح أنّه ابن الله الحيّ الوحيد (متَّى 3: 17؛ 17: 5؛ لوقا 1: 32 و35؛ 3: 22؛ 9: 35 ألخ). وقد أقرَّ يسوع نفسه بألوهيته سبع مرّات جليّاً وثلاثين مرّة ضمنيّاً (متَّى 13: 23؛ 17: 1؛ رؤيا يوحنَّا 1: 17 و18؛ 2: 18؛ 3: 21 ألخ).
والعجيب أنَّ يسوع سمّى نفسه ثمانين مرّة ابن الإنسان واعترف بهذا اللقب أنّ هذا الوعد العظيم في سفر دانيال قد تمّ بشخصه.
"كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ, فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ, وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ" (دانيال 7: 13- 14).
وأثبت يسوع هذا الوعد المهم بطرق متنوّعة لأنّه سمّى نفسه أكثر مِن مرّة ابن الإنسان مِن قوله بأنّه ابن الله، مفسّراً بهذه الطريقة كيف يحقق ابن الإنسان صفات ابن الله وخدماته الخلاصية فقال: كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ, وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ. (متَّى 20: 28) وأمام مجلس شعبه اعترف المقيّد بالسَّلاسل بحقٍّ قائلاً:" أَنْتَ قُلْتَ. وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ" (متَّى 26: 64).
مِن الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوّة وآتياً في سحاب السماء. (مزمور 110: 1؛ متَّى 16: 27؛ 25: 31 إلى 32، 26: 64).

الصَّلاة: أيُّها الآب السماوي نسجد لك لأنّك سمّيت ابنك الوحيد يسوع لندرك ونؤمن أنَّه يُعِيْن ويخلّص وينتصر. ونشكرك لأنّه تجسّد وصار إنساناً واحتمل جميع التزامات الجسد الصعبة، وحمل خطايانا، ومات عنّا كفّارة في سبيل المحبّة. آمين.

مُعَيَّنٌ بمشيئة الله
رأى بولس، أمام دمشق، يسوع في بهاء مجده؛ فأدرك وسمع أنَّه الرَّبّ نفسه، وأنَّه لم يقتله رغم اضطهاداته الدموية لأتباع المسيح، بل أنعم عليه وبرّره وأرسله خادماً إلى جميع الشعوب الملحدة. عِنْدَئِذٍ أدرك الرسول أن لا فرق بين الله الآب والله الابن، وأن كليهما وحدة روحية لا تتجزّأ، إدارتهما واحدةٌ وانسجامهما تامٌّ (متَّى 26: 39 و42؛ يوحنَّا 4: 34؛ 5: 19 و20؛ 10: 27- 3-؛ 14: 9- 11 ألخ).
لذلك اعترف بولس أنّه ليس مختاراً مِن قبل الناس أو مرسلاً مِن مؤسّستهم بل مِن الله وحده. فلم يتعلّق بالرواتب البشرية بل بخدمته بقرارات إلهيّة. فهو مختار بمشيئة القدّوس وموهوب بقوّته الروحية ومرسل باسمه المثلّث (أَعْمَال الرُّسُلِ 13: 2؛ رومية 1: 1؛ غلاطية 1: 1). كان بولس مفوّضاً مِن القدير بتواضع وضعف جسدي واعتبر نفسه في سجن الاستجواب سجين ربّه. (أَفَسُس 3: 1؛ 4: 1؛ فيلبي 1: 7و13) ولم يقبل أن يُعتبر سجين اليهود أو الرومان. لقد جعل نفسه طوعاً عبداً للمسيح (رومية 1: 1) وخدمه بتعب مستمرّ (أَعْمَال الرُّسُلِ 16: 6- 8؛ كُوْرِنْثُوْس الأولى 9: 16؛ كُوْرِنْثُوْس الثانية 7: 10).

تيموثاوس
أكرم بولس ربّ المجد ليس بمفرده فحسب، بل كان محاطاً عادة بمعاونيه وضيوفه الَّذين تعاونوا معه وقبلوا إيصال الرسائل باسمه وصلّوا معه. وكان حتَّى في سجنه الاستجوابي ليس منفرداً منعزلاً، بل محاطاً بمعاونيه الَّذين حصلوا على الحق بزيارته، وكتبوا رسائله حسب إملائه على ورق البردي، أو على ورق من مدينة برغامس. وكان تيموثاوس ابنه الروحي معه عندما أملى الرِّسَالَة إلى أهل كُوْلُوْسِّيْ واقترح عليه بعض العبارات الخاصة باللغة اليونانية، وسمّى بولس هذا الشاب، الَّذي كان أقرب له مِن جميع المعاونين والأصدقاء، "أخاه في المسيح" (كُوْرِنْثُوْس الأولى 16: 10- 11؛ فيلبي 2: 19- 23).
كان تيموثاوس عائشاً في مدينة لسترة قريباً مِن كونيا في الأناضول، وكان أبوه الجسدي يونانيّاً في الدولة الرومانية. أمَّا جدَّته لوئيس وأمه أَفْنِيْكِي فكانتا يهوديتين تقيتين ربّتا ولدهما على التوراة وأشركتاه في ميراث أجداده الرُّوحي (أَعْمَال الرُّسُلِ 16: 1- 3؛ تيموثاوس الثانية 1: 5؛ 3: 13- 15).
وإذ رافق الشاب اليهودي اليوناني بولس في رحلته التبشيرية الأولى والتصق بيسوع سمّاه بولس ابنه الرّوحي (تيموثاوس الثانية 1: 2). وفي رحلة بولس التبشيرية الثانية دعاه الرسول لخدمة المسيح كرفيق له وختنه حسب الجسد لكي يقبله اليهود أيضاً كشاهد للمسيح. ومنحه بوضع اليد عليه القوّة اللازمة لخدمته (تيموثاوس الثانية 1: 6و7).
عيّنه بولس للبقاء في المدن الَّتي بشّرها كي يهتم ببنيان نفوس المؤمنين الجدد، إذ كان الرسول نفسه مطروداً ومضطهداً مِن اليهود الساكنين في هذه المدن (كُوْرِنْثُوْس الأولى 4: 17؛ 16: 10 و11؛ فيلبي 2: 19- 23. تسالونيكي الأولى 3: 2 و6). وفي بعض رسائل بولس وقّع تيموثاوس مع بولس مضمون هذه الرسائل. (تسالونيكي الأولى والثانية وكُوْرِنْثُوْس الثانية وفيلبي وكُوْلُوْسِّيْ وفيلمون).
وختم تيموثاوس كنائب أبيه الروحي في المسيح وأرشده بولس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس كيف يدير الكنائس الجديدة ويرتبها. وشجّعه في رسالته الثانية على أن يغلب ضعفه وخوفه وكرهه للآلام وأن يضغط على معلمي البدع بصبر وقسوة ويجاهد لأجل المسيح بروح المحبّة (تيموثاوس الثانية 1: 8- 14).

إلى القديسين والإخوة في المسيح
سمّى بولس وتيموثاوس أعضاء الكنيسة في كُوْلُوْسِّيْ (قدّيسين) ممَّا يدلّ على تطهُّرهم مِن خطاياهم بدم المسيح (عِبْرَانِيِّيْنَ 9: 14و10: 14) ويتضمّن هذا تبريرهم بالنّعمة (رومية 3: 22- 24) وانسكاب الروح القدس في قلوبهم (رومية 5: 5). لقد ثبت أعضاء الكنيسة في الإيمان وسط الآلام والاضطهادات بروح المعزّي هذا (يوحنا 16: 33 و17: 17) حتَّى سُمّي هؤلاء بالإخوة المؤمنين في المسيح (متَّى 12: 47- 50؛ رومية 8: 29؛ أَفَسُس 2: 19- 22). يلهمنا هذا اللقب الشريف أنّهم أصبحوا أعضاء في عائلة الله الشاملة شرعاً وروحاً، وأنّ كلّ واحد منهم محفوظ في المسيح ويحبّه. نجد هذه العبارة الغريبة (في المسيح) أو (في الرَّبّ) أو فيه أكثر مِن مرّة في العهد الجديد، وهي تدلُّ على حفظ الَّذين سلّموا أنفسهم إلى ربّهم ومخلّصهم ملجئهم الأمين.
تتضمَّن الألقاب المذكورة لهؤلاء الأعضاء في رأس هذه الرِّسَالَة جميع صفات الخلاص بالنّعمة الخاصّة في العهد الجديد. لقد استلم أعضاء الكنيسة جميع هذه النعم والمواهب والحقوق في العهد الجديد بدون عمل حضور الرسول وثبتوا فيها بتجارب مرّة وسط وسوسات إبليس.

الصَّلاة: أيُّها الآب السماوي نشكرك لأنّك جعلت مِن الخطاة قدّيسين بواسطة يسوع المسيح، فأصبحوا إخوةً بواسطة قبولهم الروح القدس. انظر إلينا نحن أيضاً، وحقّق خلاصك في أنانيتنا العنيفة كي نصبح إخوة وأخوات مؤمنين ومخلَّصين آمين.

وضع بولس بركته الرسولية على هذه الكنيسة الصغيرة في الشتات، وأكّد لها أنّ النّعمة والسلام لكم مِن السماء. ليتنا نحفظ هذه التحيّة الممتلئة بسلطان روحي لأنّها هدف الإنجيل وخلاصته. نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ (رومية 1: 7).
نجد هذه الهبة الرسولية بتغيّرات صغيرة وإضافات في كلّ واحدة مِن رسائل بولس الرسول الثلاث عشر الموجودة في العهد الجديد. (كُوْرِنْثُوْس الأولى 1: 3؛ كُوْرِنْثُوْس الثانية 1: 2؛ غلاطية 1: 3؛ أَفَسُس 1: 2؛ فيلبي 1: 2؛ كُوْلُوْسِّيْ 1: 2؛ تسالونيكي 1: 1؛ تسالونيكي الثانية 1: 2؛ تيموثاوس الأولى 1: 2؛ تيموثاوس الثانية 1: 2؛ تيطس 1: 4؛ فيلمون 3).
تدلُّنا هذه الكلمات، التي تباركنا، على مضمون عظات الرسول ورسائله وصلاته. لا يريد أن يقول أكثر مِن هذه الكلمات. وبهذه العبارات قدّم خلاصة الإنجيل وقدرته السماوية.

النعمة
نقرأ كلمة النعمة من الله في الأديان الأخرى. وتفيد مشتقات هذه الكلمة عادةً النّعيم أو التَّنعُّم في الحياة، وفي حياتنا اليوميَّة نقول لمَن حلق شعره أو استحمَّ (نعيماً)، ونقول "نعم" عند الموافقة على أمرٍ ما، ونسمِّي الفردوس نعيماً، ويقول البعض في صلاتهم (أنعمت عليهم) ليعبّروا عن حياة سليمة في رضا القدير.
أمَّا بولس فلا يقصد أولاً مواهب نعمة الله، بل يفكر بإنعام الخاطئ كأعجوبة شرعية في خطّة خلاص الله. ويرى رسول الأمم في نعمة الثَّالُوْث الأَقْدَس العفو عن خطايا معيّنة، ومحو العار، وتبرير المجرم، وإبراز الخاطئ المطهّر بدون وصمةٍ أو عار. هذه الحقائق الخلاصية هي الأساس والسِّرّ في العهد الجديد.
والعجيب أنَّ نعمة تبرير الله تأتي مجَّاناً إلى الخطاة، وليس عليهم أن يجتهدوا للحصول عليها بواسطة الصلاة والصوم والحج والصدقة. ولا تكفي الأعمال الصالحة لنيل نعمة الله. كان بولس يدرس شريعة موسى ويتعمّق فيها ويحفظ وصاياها (613 وصيَّة). ومع ذلك اضطهد كنيسة المسيح في القدس بعنف لأنه لم يعرف نعمة الله المجانية ولكن عندما سافر إلى دمشق ليبيد الكنيسة في هذه العاصمة مفوّضاً مِن المجلس الديني، ظهر الرَّبّ يسوع له في إشراق مجده وكلّمه وجاوبه، ودعاه رغم أنه عدوّه رسولاً له إلى الأمم. عِنْدَئِذٍ أدرك بولس أنه تخلّص مجّاناً بالنعمة مِن غضب الله ودينونته. فلا تقوى ولا اجتهاد ولا شيء آخَر يُخلص الإنسان غير نعمة المسيح وحدها الموهوبة مجَّاناً مِن السماء.
لا تتضمّن هذه النعمة المجانية غفران بعض الخطايا، أو الصَّفح عن آثام معيّنة ضدّ شريعة موسى، بل هي إنعام شاملٌ كاملٌ. إنّ نعمة المسيح تمحو جميع خطايا الخاطئ المعروفة وغير المعروفة، الحقيقية والمستحيلة، حتّى الخطايا الموروثة ونقصاننا في مجد الرَّبّ (تكوين 1: 27؛ رومية 3: 23). تهب نعمة الله للخطاة تطهيراً مطلقاً لكيانهم مع غفران جميع خطاياهم (مزمور 103: 3).
لا يعرف هذا التبرير الكامل للخطاة حدوداً، ولا يتم للمسيحيين فحسب إن كانوا أتقياء ومعمَّدين، بل يشمل أيضاً البوذيين والملحدين واليهود والمسلمين وحتى الشيوعيين الذين لا يعرفون حقّهم بالنّعمة ويرفضونها في عماهم الرّوحي. إنَّ نعمة عفو الله سارية المفعول لجميع النّاس في دنيانا كامتياز وعرض شامل؛ فمن يشكر الرَّبّ لهذا الحقّ العظيم؟
لا تطفو النعمة من مشاعر الله صدفةً، ولا يُفضَّل خاطئ معيّن على غيره، بل نعمة الله هي حق دائم للجميع دون استثناء. فلا يضلّ الله مَن يشاء ولا يهدي مَن يشاء، بل قد فتح باب نعمته للجميع. قد يخطئ المتبرِّر مرّة أخرى سهواً أمَّا الرَّبّ فيثبت أميناً لأنَّه قطع معه عهد النعمة. إنَّنا عائشون، وإن لم نُدرك ذلك، في عصر النعمة وليس في عصر الشريعة (آية للكتابة إِشَعْيَاء 54: 8 و10).
كيف كُونت نعمة الله؟ بموت المسيح الكفَّاري وحده. اعترف يوحنَّا المعمدان بعد معمودية ابن مريم في نهر الأردن: هوذا حَمَل اللهِ الَّذي يرفع خطيئة العالم (يوحنَّا 1: 29). وشهد بولس بوضوح: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ, غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ.... لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيئةً, خَطِيئةً لأَجْلِنَا, لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللَّهِ فِيهِ" (كُوْرِنْثُوْس الثانية 5: 19 و21). وأثبت رسول الأمم بهذه الجملة أساس اعتراف إيمانه:"لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللَّهِ, مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ" (رومية 3: 22- 24).
ويشهد الرسول يوحنَّا بالقصد نفسه "هُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ, بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضاً" (يوحنَّا الأولى 2: 2)
ونقرأ في خلاصة الإنجيل: "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ, لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ, بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ" (يوحنَّا 3: 16- 17).

ليكن لكم
يشهد الرسول بهذه الكلمات حسب العرق السامي أنّ النعمة أصبحت حقاً للمؤمنين بالمسيح. فهي ليست أُمنيةً أو اقتراحاً، بل امتيازاً شرعيّاً. فالنعمة هي ملك المؤمنين، وهبةٌ مِن الله؛ ومَن يؤمن بهذه الحقيقة تتحقّق النعمة فيه عملياً؛ ومَن لا يؤمن ولا يهتم بهذه النعمة يتقسَّى. أمَّا حقّ النعمة فمفتوح لكلّ تائب وراجع نادماً. وهكذا أكمل المسيح كلمته: الَّذي يؤمن به لا يدان والَّذي لا يؤمن قد دين،لأنه لم يؤمن باسم الله الوحيد (يوحنا 3: 18 و19).
إنّ نعمة الله عظيمة وشاملة ولكن لا بدّ للإنسان مِن أن يقبلها ويؤمن بها ويشكر الله لأجلها. إن أخذ إنسانٌ ما سنداً ممهوراً فلا ينفعه إلاَّ إذا مهره هو أيضاً كمستلم ولا تتغيّر قيمة السند شرعيّاً. ولا بدّ مِن القبول الشرعي الكامل. وكلّ مَن يفقد حقّه بالنعمة يضلّ نفسه. لذلك اشكُر الله لأجل موت المسيح الكفّاري عوضاً عنك، ولأجل أمانته التي لا تنتهي.

الصلاة: أبانا الَّذي في السماوات، نسجد لك لأنّ الرسول بولس يؤكد لجميع قرّاء رسائله أنّ النعمة الكاملة وقوّة محبّتك تخصُّهم لأجل يسوع المسيح، وأنَّها أصبحت ملكهم. ساعدنا على الإيمان الثابت والشكر بسرور والتمسّك بالنعمة بأمانةٍ رغم جميع المشاكل والضيقات. آمين.

السلام
بعدما أكّد الرسول، لأهل الكنيسة، النعمة الموهوبة مجّاناً بدم المسيح، أوضح لهم الثمار الرّوحية الناتجة مِن هذا الإنعام. وكتب في رسالته إلى أهل رومية: "إِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللَّهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ, الَّذِي بِهِ أَيْضاً قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ إِلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ, وَنَفْتَخِرُ عَلَى رَجَاءِ مَجْدِ اللَّهِ" (رومية 5: 1 و2).
ليتنا لا نقرأ هذه الوعود فحسب، بل نحفظها غيباً ونجعلها سبباً لشكرنا وحمدنا. لخَّص بولس ثمار الرُّوح القدس ومواهبه وسمّاها في بركته الرسولية: سلام الله الذي أُعطي لنا بواسطة مصالحتنا مع القدّوس بموت المسيح على الصليب، وهو الأساس للعهد الجديد. أطفئ غضب الله على عصيان النّاس وثورتهم ضدّه بواسطة موت المسيح الكفاري "لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ" (عِبْرَانِيِّيْنَ 10: 14). ويؤكّد لنا الروح القدس بكلمة الرَّب، هذا هو العهد الَّذي عهده معهم بعد تلك الأيام يَقُولُ الرَّبُّ أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي قُلُوبِهِمْ وَأَكْتُبُهَا فِي أَذْهَانِهِمْ وَلَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ.. وَيَشْهَدُ لَنَا الرُّوحُ الْقُدُسُ أَيْضاً. "أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي قُلُوبِهِمْ وَأَكْتُبُهَا فِي أَذْهَانِهِمْ وَلَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ" (عِبْرَانِيِّيْنَ 10: 15- 17) صالحنا ابن الله بموته النيابي عنّا مع أبيه ومنحنا سلامه الخاص، ولا نضطر أن نخاف الله بشعورنا الباطني، لأنّ دم المسيح متكلّم لأجلنا ويديمنا في السلام الأزلي مع القدّوس. والسلام الذي يتكلّم بولس عنه ليس سلاماً سياسياً بين الشعوب المختلفة بل هو سلام روحي مع الله. ولا يقصد يسوع أن يغيّر الأحوال والضيقات التي يعيش الناس فيها بل يجدّدهم في داخلهم ويكشف خطاياهم ويسامحهم ويرجعهم إلى السلام المفقود مع خالقهم بسبب خطاياهم. أراد يسوع أن يثبّتنا في الوئام والمحبَّة مع الله فنعيش متّجهين نحوه مثل دوّار الشمس الَّذي يغيّر اتجاهه حسب موقع الشمس. لا يعرف سلام الله إلاَّ أتباع المسيح. ونعلم أنّ السلام بين الشعوب قد أُخذ مِن العالم بعدما كسر حَمَل اللهِ الختم الثاني مِن سفر السماء (رؤيا يوحنا 6: 3).
وسيرجع لنا السلام في العالم بعدما يأتي رئيس السلام إلى أرضنا ثانية. ليس السّلام مع الله مِن نتائج واجتهاد المؤمن التائب، بل إنَّه هبة مِن الثَّالُوْث الأَقْدَس. لسنا نحن الذين نقطع عهداً مع الله بل هو يقطع عهده معنا وعلينا أن نخضع له ونطيعه. عاش يسوع دائماً تحت نير مع أبيه (متَّى 11: 29) وطلب منَّا أن نحمل نيره على أكتافنا. وهذا الأمر كمثل الفيل والنّملة اللَّذين يسيران تحت نير واحد، ومِن ثمَّ يحمل الفيل النير وحده مع النملة. ينبغي أن ندرك أننا إنً لم نخضع لنير يسوع لا يثبت روح الله فينا فقط، وإنْ لم نتغيَّر إلى وداعة يسوع وتواضعه لن نجد سلاماً وراحة لأنفسنا. لقد أعلن يسوع قائلاً:"سَلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا" (يوحنَّا 14: 27)، فوضّح لنا أنّ سلامه الَّذي يثبت بينه وبين الله يسكن في نفسه، وهو الرُّوح القدس نفسه. كان ابن مريم منذ ولادته بريئاً طاهراً بدون خطيئة، وقد عمَّته قوَّة الله وبركاته دون مانعٍ. وإذ قَبِلَ أتباعه نعمة غفران خطاياهم والصلح مع الله في الصليب تطهّروا تطهيراً وتقدّسوا تقديساً، حتَّى حلّ فيهم روح السلام وبات فيهم. وحيث يدخل روحُ الله قلبَ الإنسان يختبر الإنسان السلام الحقيقي، ويُسمِّيه يسوع سلامه الخاص الأصيل الذي يشاء أن يغيّرنا ويغلبنا ويعزّينا حقّاً. ولا يتمّ هذا إلاَّ بإنكار الذّات فينا؛ لذلك حذّرنا يسوع قائلاً لا تضطرب ولا ترهب (يوحنَّا 14: 27).
يربّينا سلام الله على السلام مع النّاس، وحتَّى على أن نحبّ أعداءنا، ويقنعنا أن نعترف أوَّلاً بذنوبنا، ويحفظنا مِن أن ندين أخصامنا بأبّهة. فروح السلام هو روح المحبّة لأنّ سلام الله ينبع مِن محبّته (يوحنَّا الأولى 4: 16). اختبر بولس قوَّة روح السلام فشهد: "سَلاَمُ اللَّهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (فيلبي 4: 7). يغلب الرسول اكتفاءنا بالإيمان بقدرة العقل، ويعلن لنا أنّ الرُّوح القدس أعظم مِن عقولنا مانحاً سلام الله. وهذه الموهبة تملك قدرة المعرفة والتَّفكير التي تفوق مواهب العباقرة والعلماء. الإنسان الطبيعي هو أسير حدوده. أمَّا روح الله فيحفظ حتَّى أعماق الله، ويُعلن لنا ذهن الله وابنه؛ ولذلك يشهد لنا بولس بجرأة: "أَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ الْمَسِيحِ" (كُوْرِنْثُوْس الأولى 2: 14- 16).
إنَّ السّلام الَّذي يتكلم عنه بولس في رسائله ليس هو سلام الله فقط، بل سلام المسيح وسلام الرُّوح القدس أيضاً. وهو مِن صفة وقوَّة وحدة الثَّالُوْث الأَقْدَس. فليس في الله اضطراب أو تساؤل عن ذنب وعلّة، لأنّ الله بارّ في محبّته وحكمته إنَّ روح السّلام هذا لم يخرج مِن بولس ولا حتَّى في أثناء مكوثه في سجن الاستجواب، بل استطاع بولس أن يميّز الأرواح، فعاش في طاعة ربّه مطمئناً.

لكم
يُطوّب يسوع أتباعه الَّذين حصلوا على سلام مع الله وقدَّموه لأناس في محيطهم (متَّى 5: 9). وإن كان مؤمنٌ ما لا يعرف كيف يُقدَّم السّلام للآخرين فليَنْحَنِ ويطلب إلى ربّه أن يحلّ روح السلام فيه أوَّلاً كي يستطيع أن يبثّ هذا السلام إلى عائلته ومدرسته وكنيسته، علماً أنَّنا لسنا نحن صانعي السلام مِن تلقاء أنفسنا، بل الرُّوح القدس يقودنا إلى الشَّهادة بقوّة الله لكي يحلّ روح السلام في الذين يقبلون نعمة ربّهم المجانية. ويل للذين يحفظون السلام الإلهي لأنفسهم ويريدون أن يتمتعوا بهبة هذه النعمة، ويرتاحوا في سلام الله لأنفسهم. فهم يشبهون البحر الميت الذي له مصب واحد وليس له مخرج، بينما لبحيرة طبريا مصبٌّ ومخرجٌ، وهي لذلك تعجّ بالسمك والحياة. لم يضع بولس بركته الرسولية على أفراد فقط، بل على كنائس معيّنة. قال أحد المؤمنين في أوروبا مِن سلالة الأمراء: لا أعترف بالمسيحية بدون شركة المؤمنين. تظهر في حياة القدّيسين بعضهم مع بعض علّة مواهبهم الموروثة بكل وضوح. ولا يؤمن أحد أنّ الاختلافات والكبرياء والتَّحزبات في الكنائس تمزّق رباط المحبّة والحقّ. نادراً ما يريد أحد أن يكون الأصغر والخادم للجميع. علَّق يسوع، بعد اعتراف بطرس بألوهيَّته كابن الله (متَّى 16: 16)، أهمية كبرى على تدريب رسله لتغيير مزاجهم، وكتب لهم الوصيّة الجديدة " أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً". كما أحبّهم هو (يوحنَّا 13: 34). وطلب يسوع في صلاته الكهنوتية عدّة مرّات أن يتَّحد المؤمنون معاً حتَّى يكونوا واحداً كما هو وأبوه واحد. وإذ لم يكونوا قادرين على إنشاء هذه الوحدة في المحبّة الرُّوحية مِن تلقاء أنفسهم أكمل طلبته قائلاً:" أَنْتَ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ" (يوحنَّا 17: 21- 26)؛ فهو ينشىء السلام في ضعفنا.

الصَّلاة: أيُّها الآب السماوي، نشكرك ونتهلل لأنّك منحت سلاماً أبديّاً بموت يسوع المسيح الكفّاري، واقتربت بخليقتك العاصية. هَب لروحك المُعزِّي أن يحلّ فينا وفي جميع التائبين، لكي ننشر سلامك وسرورك في العالم الممتلئ بالبغض، ونصبح نحن مِن صانعي السّلام باسمك. آمين.

الله أبونا
اخترق بولس جدران جهل البشر ببركته الرسولية، وأعلن لنا مَن هو الله بالحقيقة. لا يعرف الإنسان الطبيعي مَن هو الله، ولا تدرك الأديان المختلفة جوهره. يشعرون بوجوده، ولكن لا يعرفون مَن هو؟ ولكنَّ يوحنَّا كتب لنا:"اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يوحنَّا 1: 18). وأمَّا يسوع فأعلن:" كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي, وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ, وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ. 28 تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ, وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (متَّى 11: 27- 28).
قَبِلَ بولس شهادة يسوع مؤمناً، واعترف رغم اضطهاد اليهود بمَن هو الله العظيم المجهول المخيف: هو أبونا. وهذا الإعلان مفاجأة. الأزلي يُحْيي المشرفين على الموت، والقدّوس يقبل الخطاة، والصبور يحتمل أولاده المتمرّدين، والبار يبرّر الظالمين. إنّ هذه ليست منطقياً بل روحيّاً. محبَّة الله الآب أعظم مِن عقولنا، فمتى نخضع بفرح لقدرته وجودته, ونسبّح اسمه الجديد الَّذي أعلنه يسوع. لماذا نسلّم مراراً إلى ربّ غير معروف، وليس إلى أبينا السماوي المحبّ؟ مَن يتعمّق في سرّ اسم الله يجد أن يسوع يتكلّم في العهد الجديد حوالي مائتي مرّة، فيُسمِّيه باحترام ووقار ثمانين مرّة (الآب). ويسمّيه بشكر 59 مرَّة (أباه). ويدعوه في صلاته عشر مرّات يا أبتاه. مرّة واحدة يقول في افتتاحيته الصلاة الربّانية (أبانا) (متَّى 6: 9 ولوقا 11: 2). وبهذه العبارة الممتلئة بالنعمة أشرك أتباعه بامتيازه، لأنّ الله تبنّاهم شرعياً وولدهم ثانية روحيّاً فأصبحوا بكفّارة المسيح وحلول الرُّوح القدس أولاد الله في أسرته. مَن يدرك هذه الحقائق ويرَ عمقها الرُّوحي يسجد للآب السماوي ولابن محبّته بواسطة الرُّوح القدس، ويخدمه طوال حياته بفرح وهتاف. لذلك سمّى يسوع أباه إحدىً وعشرين مرّة (أباكم) وخمس مرّات (أباك). وينبغي أن ندرك لأجل تواضعنا أنّ يسوع تكلّم ست مرات عن الآب وأبيه مما أعلن أنّه الآب لتلاميذه. ليست بنوّتنا هي سرّ الله الآب بل بنوّة يسوع حبيبه، ولأنّ الله القدير أعلن نفسه الآب ليسوع وشهد علانية عن ابنه الحبيب (متَّى 3: 17 و17 : 5). نشترك بواسطة ارتباطنا الإيماني في امتياز بنوّته وعلينا في الوقت نفسه أن نخضع لسلطان أبينا. ليس الله أبانا مباشرة، بل هو الآب ليسوع المسيح الذي فيه، ففيه أصبحنا نحن أولاد الله. ويجب أن تكون صلواتنا لأبينا السماوي واجتهاداتنا كلُّها باسم يسوع الذي دُفع إليه كلّ سلطان في السماء وعلى الأرض (متَّى 28: 18).
إنَّه لم يضع علينا، بوصيّة طاعة الإيمان لأبينا السماوي، ثقلاً يستحيل احتماله، بل سكب روحه في أتباعه لكي ينالوا قوَّة مِن فوق. فكتب بولس في هذه الأعجوبة: إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ يَا أَبَا الآبُ. اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَِرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ (رومية 8: 15- 17).
قيل إنَّ المصلح "كلفن" اعترف بأنّ صرخة الروح القدس الأصليّة في أتباع المسيح هي الوحي الأصلي الختم بالروح القدس. وننال بصرخة الرُّوح القدس هذه في قلوبنا إعلان روح الله مباشرة لكي لا نشكّ في أبوّته. فمَن يشكر أبانا السماوي لعنايته ومحبّته لأجل خلاصنا بكفّارة ابنه الوحيد لتربيتنا وتغييرنا، لأجل ميراثه الروحي فينا بواسطة حلول روحه في أفئدتنا وحتّى لأجل المجد الموعود لنا؟ لقد دُفعت هذه الحقائق الرُّوحية كلُّها إلينا لأجل يسوع المسيح. فأين شكرنا وروحنا يقودنا لنصلّي ونرتّل شكراً يا أبي لكل ما عملتَ وتعمل لأجلنا؟
إنّ الصَّلاة الربانية الَّتي صلاّها يسوع مع تلاميذه هي الصَّلاة الرئيسية في المسيحية. وتُعلِّمُنا هذه الصَّلاة، التي هي بالحقيقة الصلاة الأبوية، أن نطلب تقديس اسم الآب فينا وحولنا وبواسطتنا، وأن يأتي ملكوته الأبوي إلينا ومعنا وتكون مشيئته الأبوية فينا كما في السماء كذلك على الأرض. وأن يمنحنا أبونا الخبز الكافي كلّ يوم، ليس لنا فحسب بل لجميع أولاده. فهل نشكره حقّاً لأجل الخبز اليومي؟ لنلتمسْ مِن أبينا يومياً أن يغفر أخطاءنا وزلاتنا وأن يربينا على أن نغفر نحن أيضاً لأعدائنا جميع أخطائهم وزلاَّتهم. ولنطلب منه أيضاً أن يحمينا مِن تجارب السقوط مِن أبوّته، وأن يفدينا مِن حيلة وسلطة الشرّير فيُثبِّتنا في يسوع المسيح ويحمينا لأنّ له الملك والقوة والمجد إلى الأبد (متَّى 6: 9- 13).
ما أعظم الامتياز أنّ يسوع أعلن لنا أباه، وبولس أكّد لنا نعمته وغفرانه وسلامه وحياته! يليق بنا أن ندرك أنَّ الله ليس أبا أتباع ابنه فقط، بل هو أيضاً أبو الضالين والضَّالاَّت ولا سيَّما مِن أبناء إبراهيم، وهو ينتظر رجوعهم ويترقّب مجيئهم. وما أن يرى واحداً منهم يقترب منه، وهو في لباس ممزّق، ويخجل مِن حالته النّجسة حتَّى يقوم ويسرع نحوه لكي لا يكون وحيداً في اقترابه منه، بل يساعده على التَّوبة التَّامة. فلا ينطق بكلمةٍ واحدةٍ، بل ينتظر منه اعترافه بخطاياه وطلبه أن يمنحه عملاً ورحمة. عِنْدَئِذٍ يضع الآب رضا البرّ حوله ويُزيِّن يده بخاتم ختن الرُّوح القدس، ويطلب منه أن يأكل مِن العجل المسمّن المطبوخ لأجله. ويدعو الآب جميع أهل بيته لكي يشتركوا في عودة ابنه الضال الذي كان ميتاً روحيّاً وعاش بنعمته ثانيةً.
ومِن ثمَّ يخرج الآب مِن الاحتفال إلى ابنه التقي الباقي في بيت الآب والذي لم يشأ أن يستقبل أخاه الفاسد، ويُحاول أن يقنعه أن يُحبَّ أخاه. لقد جعل يسوع قصة الابنين الضالين شهادة بارزة لجوهر أبيه وأعماله كي نُدرك مَن هو بالحقيقة (لوقا 15: 11- 38).
ليت جميع الإخوة والأخوات يدركون أنّ بولس يُحيِّي ويدعو جميع الخطاة الملحدين قائلاً: نعمة لكم وسلام مِن الله أبيكم. إنَّ محبّة الله القدّوسة هي أعظم من أفكارنا وتقاليدنا. وفي محبَّته للضَّالين نرى رحمته غير المحدودة.

الصَّلاة: أيُّها الآب السماوي نسجد لك لأنك لم ترفضنا لأجل أكاذيبنا ونجاساتنا وكبريائنا، بل تبنيتنا لأجل كفَّارة يسوع، وسكبت روحك القدّوس فينا لكي نصرخ يا أبا الآب ونرنم هللويا مِن كل القلب. امنحنا جميع الطلبات الروحية المذكورة في الصَّلاة الربّانية كي تتحقّق في حياتنا آمين.

الرَّبّ يسوع المسيح
لم يكن المسيح بالنِّسبة إلى بولس ابن مريم النَّاصري فقط، بل كان أيضاً الرَّب المجيد المقام مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ الذي منعه أمام دمشق من إبادة كنيسته. لقد أدرك بولس أنَّ يسوع هو في مجده ربّ الأرباب، وأنَّ ملكوت هذا الملك الأزلي ليس مِن هذه الدنيا. لا يطلب القدير من شعبه ضرائب، ولا يشتري دبّابات وصواريخ، بل يعمل بسلطة اسمه وبقوّة روحه. اعترف يسوع بسلطانه المستتر أمام بيلاطس الوالي الروماني وقال: مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلَكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا. فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ. أَجَابَ يَسُوعُ أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَِشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي. (يوحنا 18: 36- 37).
تتضمَّن كلمة الحقّ في العالم السامي معانٍ مختلفة، فالحقُّ هو الصدق والصَّواب والعدل واليقين في آنٍ واحدٍ معاً. وقد أعلن يسوع شريعة جديدة، وجعل محبته شعاراً لمملكته. ليتنا نقرأ وصايا ملكنا في العهد الجديد بتمعّن، ونمارسها طوعاً، فنفهم مزاج ربّنا وحقّه ومبادئه ومبادئ مملكته الروحية أكثر (متَّى 28: 20 ؛ يوحنا 13: 34). أمَّا بولس فشهد بهذه المعاني "أنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ" (رومية 8: 2) وكان يسوع بنفسه يقترح على تلاميذه:"إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي, فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا, وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ. أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ" (متَّى 16: 24- 26). مَن يتعمّق في شريعة المسيح يجد أنَّ عدداً وافراً مِن أوامره يخصُّ نشر ملكوته. لم يعلن يسوع قدرته المطلقة بعد قيامته مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ لِيُظهِر نفسه العظيمة، بل لينعش تلاميذه البطيئين الخائفين، ويدعو الناس الآخرين إلى الانفتاح للآب والابن والروح القدس ودخول ملكوته بواسطة معموديتهم (متَّى 28 عدد 18- 19). وشجّع أتباعه وحذّرهم في الوقت نفسه: "كُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضاً بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ, وَلَكِنْ مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (متَّى 10: 32- 33).
إنَّ محبَّة العدوِّ هي مِن الأمور البارزة المهمّة. تبدو هذه الوصيّة للإنسان الطبيعي أمراً مستحيلاً، بينما هي فريضةٌ لكُلِّ مؤمن بالمسيح القائل:" سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ, تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ, أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ, وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ, لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ, فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ, وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ, فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ. أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ, فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ. أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا. فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ" (متَّى 5: 43- 48).
مَن يقرأ وصايا المسيح هذه الممتلئة بالرحمة واللطف ويحاول تنفيذها يبدأ بالارتجاف، لأنّ محبّتنا لأعدائنا ناقصة إنْ لم تكسرنا أوامر المسيح بمحبة العدو فننكسر نهائياً وكلِّياً بالوصية لنكون كاملين كالله، لأنه أبونا المحبّ دائماً. إنَّما الميراث الروحي مِن أبينا السماوي فينا يُشجِّعنا ويقودنا إلى أن نحبّ أعداءنا حقّاً لكي يتحقّق جوهر ملكوت المسيح فينا، كما هو مكتوب" لاَ بِالْقُدْرَةِ وَلاَ بِالْقُوَّةِ بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ" (زكريا 4: 6).
مَن يُصغِِ إلى فقرات الإنجيل يكتشف أنّ مبادئ ملكوت الله وقدراته متضمَّنةٌ في اسم يسوع. فملك الملوك البار أصبح حَمَل اللهِ الفريد الَّذي رفع خطيئة العالم (يوحنا 1: 29، رؤيا يوحنا 5: 5-6). طهّر يسوع بذبيحته الكفارية شعبه المختار مِن بين جميع الشعوب، الَّذي تبرّر بدمه وصار طاهراً ومستحقاً ومؤهَّلاً أن يكون في عائلته السماوية. شهد بطرس مقدام الرسل للكنائس الجديدة في الأناضول والعالم كلّه: "وأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ, وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ, أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ, شَعْبُ اقْتِنَاءٍ, لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ. الَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً, وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللَّهِ. الَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ, وَأَمَّا الآنَ فَمَرْحُومُونَ" (رسالة بطرس الأولى 2: 9- 10). أتى يسوع أيضاً لينقض أعمال الشيطان (يوحنا الأولى 3: 8).
لم يغلب المسيح الخطيئة والبغض والكذب في نفسه وكنيسته وحسب، بل غلب بقيامته مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ الموت نفسه، وأكّد لأتباعه ما لم يستطع مؤسِّسو الأديان قَولَه: "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا, وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا!" (يوحنَّا 11: 25- 26).
مَن آمَن بشهادة يسوع هذه اشترك في غلبته على الموت. حاول الشيطان أن يجرّب يسوع مراراً، ولكنَّه كلّ مرّة كان ينكسر مِن تواضعه ومحبّته. سمّى المسيح الشيطان ولخّص جميع صفاته وألقابه بالعبارة (الشرّير) (متَّى 6: 18).
لم يستطع الشيطان أن يُجرِّب الصالح بأيِّ خطيئةٍ أو خطأ وهو على الصليب، ولا حتَّى في ضعف جسده. فثبت يسوع أميناً لأبيه حتَّى عندما انفصل أبوه عنه في دينونته على خطايانا الَّتي حملها ابنه الحبيب. وتؤكد لنا رؤيا يوحنا أنَّ يسوع، وهو كلمة الله المتجسّد، سيُجرِّد الشيطانَ قوّتَه ويطلب مِن أحد الملائكة أن يطرحه في هاوية الهلاك (رؤيا 19: 11- 20: 10).
شهد يسوع الرَّبّ في كنيسة الناصرة بما أنبأ به إِشَعْيَاء سابقاً (إِشَعْيَاء 61: 1- 2 ولوقا 4: 18- 19). وبهذه الكلمات أثبت يسوع أهداف وحدود ملكوته على الأرض. فعاش مع الروح القدس في وحدة كاملة مع ربّ العهد. إنَّ الثَّالُوْث الأَقْدَس هو أشبه بعقدة لا تنفكّ. ووحدة الثَّالُوْث الأَقْدَس هي سرّ شخصيّة المسيح وملكوته. الثلاثة واحدٌ (يوحنا 10: 30؛ 14: 9- 11).
ظهرت الوحدة الإلهية بعد امتلاء يسوع مِن الرُّوح القدس أثناء معموديته في الأردن. واعترف يسوع أنّه هو المسيح الممسوح بقدرة روح الله، وهذا يُشير إلى أنَّ على كلِّ مسيحي أن يختبر مسحة الروح القدس مِن يد المسيح، لأن هذا هو معنى الكلمة (مسيحي). الغاية الأولى لهذه المسحة هي تبشير العالم بواسطة الإنجيل الَّذي يقبله المساكين أوَّلاً.
فيا للعجب أنّ الأقوياء والأغنياء والجميلات والأذكياء لا يصغون عادةً إلى بشارة الخلاص لأنّهم متيقّنون مِن ذواتهم، فيظنُّون أنَّهم لا يحتاجون إلى خلاص يسوع ولا إلى الروح القدس. أمَّا المحتقَرون والمرضى والمحتاجون فيشتاقون إلى مخلّص معين وطبيب لأنفسهم، فيختبرون أنّ إيمانهم بيسوع يحرّرهم مِن ارتباطهم بالخطايا ويفتح أعين قلوبهم حتَّى يدركوا أنّ الله هو أبوهم، ويقبلوا يسوع ربّهم ومخلصهم، ويتعزّوا بالرُّوح القدس. وهذا التحرير الرُّوحي يصل أيضاً للذين ييأسون ويظنّون أنّ جميع الناس وحتَّى الله نفسه قد نسيهم، حتَّى لم يبقَ فيهم أيُّ بصيصٍ لأملٍ أو رجاء. ولكنَّ الرَّب يفتح لهم باب السماء على مصراعيه، فيسمعون الكلمة الهامسة في آذانهم أنّ عصر النعمة قد بدأ، ويرجعون متحرّرين مِن سجن الشرير، ويرون مدهوشين أن الله الآب يستقبلهم، ويشكرونه إلى الأبد. حقّق يسوع في حياتهم الدنيوية الوعد العظيم (في إِشَعْيَاء 61: 1- 2). ومَن يقرأ الإنجيل بتمعّن يجد فيه التفسير العملي لهذه النبوءة. فتحقُّق النبوّة أظهر أنّ ابن الله شفى كلّ مريض تقدّم إليه، وحرّر كلّ ملبوس التقاه، فهربت الأرواح النجسة بأمره، وظهر سلطانه على العواصف والبحر الهائج، وأقام أمواتاً وغفر للتَّائب ذنوبه. فمَن يسمع ويؤمن يُدرك أنّ الله يأتي إليه بابنه الحنون الحبيب.
لم يزر يسوع الملوك والأمراء ورؤساء الكهنة، بل عاش مع المساكين فقط وأحبّهم حتَّى يومنا، وصلّى الصَّلاة العجيبة المدهشة: "أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبَّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَِنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَِنْ هَكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ. كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ. تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (متَّى 11: 25- 28). أراد الرسول بولس أن يقدّم للكنائس ولزملائه في الخدمة هذه المبادئ كخلاصة إنجيله، ولذلك أملى وأبرز في رسائله: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وكل مَن يدرك هذه التحيّة الرسولية ويقبلها يعيش في ملكوت الله أبينا تحت حماية وسلطة الرَّبّ يسوع المسيح الَّذي يملك كحَمَل اللهِ الدنيا والآخرة. وسوف يرجع بمجدٍ عظيمٍ ويدين الأحياء والأموات. فهل نحن مستعدّون لاستقباله؟ ادرس وصاياه الألف وغنى وعوده ليعدّ قلبك للِّقاء الَّذي لا بدّ أن يحدث.

الصَّلَاة
أبانا الَّذي في السماوات، نشكرك لأنّك دفعت كل سلطان في السماء وعلى الأرض لابنك الحبيب. هو ربّنا ونريد أن نطيعه. اهدِنا إلى طرق روحك القدّوس لنعيش حسب وصايا ملكنا بسرور. ليأتِ ملكوتك ولتكن مشيئتك كما في السماء كذلك عندنا أيضاً. آمين.
السُّؤَال
ما هو أهم اختبار في حياة بولس وكيف أثَّر في بشارته؟ لماذا لم تكن العبارة (المسيح) اسماً ليسوع بل لقباً له، وماذا يعني هذا اللقب؟ ماذا يعني اسم يسوع لنفسك؟ كيف أمكن بولس أن يقول إنَّه ليس مدعوّاً مِن الناس بل مِن الله، وهو رسوله إلى الأمم النّجسين؟ مَن هو تيموثاوس الَّذي شارك بولس في كتابة رسالته إلى أهل كُوْلُوْسِّيْ؟ مَن الَّذي أصبح قدّيساً؟ وكيف يصبح أتباع المسيح إخوة وأخوات في محبّته عمليّاً؟ ماذا تعني عبارة "نعمة لكم" في العهد الجديد؟ ما هو الأمر المميَّز في سلام المسيح؟ لماذا نستحقّ أن نعترف بأنّ الله القدير هو أبونا؟ ماذا يعني اللَّقب (الرَّبّ) ليسوع المسيح ولنا؟