Skip to content

Commentaries
Arabic
يعقوب
  
الامتِحَان والاخْتِبَار
(1: 12- 18)
1:12طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ. لأَِنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَه ُ13لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أَجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ، لأَِنَّ اللهَ غَيْرُ مَجَرِّبٍ بِالشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا.14وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ.15ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا.16لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ.17كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ.18شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ


أوصانا يَعْقُوب قبلاً في هذا الأَصْحَاح أن نَقبل المِحَنَ بفرحٍ، وهو يجد هنا في الاخْتِبَارات والمحن سبباً أعظم للفرح. "طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ". فالامتِحَانات لا تُعلِّمنا فقط الصَّبر الحيويَّ جداً للنُّضج المَسِيْحي، بل إنَّ الامتِحَان التي نحتمله بالروح الصحيح يأتي بمكافأةٍ أبديَّةٍ يُرمَز لديمومتها على نحوٍ جميلٍ "بالإكليل". الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى يَخْلُصُ، ويُمكن التَّعبير ذهنيّاً عن ذروة هذا الإجراء المُخلِّص "بإكليل الحياة". "امتُحِنَ" dokimos إنَّ الفعل اليوناني الذي وراء الصِّفة يُعِيد إلى الذِّهن تمحيص الذَّهَب، ويُذكِّرُنا بعملية التَّمحيص والتَّنقية التي يخضع لها المعدن الثَّمين، فينسجم بالتَّالي مع ما جاء في (ملاخي 3: 2).
يعطينا يَعْقُوب إذاً طوبى إضافيَّةً نرى فيها تأثير المحنة المُنقِّي والمُطهِّر كما يقصده الله لحياتنا، فتزول النَّجاسات الشِّريرة تدريجيّاً، وتنعكس الصُّورة الإلهيَّة فينا كوجه الممحِّص مِن سطح المعدن الثَّمين.
إنَّه لأمرٌ مثيرٌ للاهتمام أن نلاحظ أنَّ الرُّسُل الأربعة جميعهم يُوحَنَّا وبطرس وبولس ويَعْقُوب مفتونون بصورة الإكليل. والإكليل لا يظهر في كلمات يَسُوْع، على الرغم مِن استعماله الدَّائم للُّغة المجازية، بل يظهر فقط على جبينه المتوَّج بإكليل الشَّوك. ويُوحَنَّا يضعه في (الرؤيا 4: 4) على رؤوس الشُّيوخ الأربعة والعشرين كي يُلقي كلُّ منهم بإكليله أمام العرش في سجودهم السَّماوي. ويُعلن بطرس عن المكافأة بوصفها "إكليل المجد" للَّذين يرعون رعيَّة الله صائرين أمثلةً للرَّعيَّة (1 بطرس 5: 2- 4). أمَّا بولس فيتحدَّث عن "إكليل البِرِّ" الذي يُوهَب لجميع الذين يُحبُّون ظهور الرَّبِّ (2 تِيْمُوْثَاوُس 4: 8): يُعطَى الإكليل للَّذين يثبتون بأمانةٍ ويخدمون بمحبَّةٍ، رمزاً لملء الحياة والمجد بظهور الله (رؤيا 2: 10).
والآن تظهر التَّجربة للعيان بمعنى الإغراء (الآية 13) وهذا المعنى مغايرٌ لما ورد في (تكوين 22: 1) أنَّ الله امتحن إِبْرَاهِيْم، أي جرَّب إيمانه. فطلبُ الله التَّضحية بالابن ليس فيه أيُّ إغراءٍ. يُستعمَل في الأصل العبري للعهد القديم فعلان مرادفان، يُترجَم أحدهما على نحو منسجم تقريباً "جرَّب" في النُّسخة المعتمَدة، بينما يُترجَم الفعل الآخَر "امتحن" أو "اختبر". وتُساعدنا القرينة على أن نُقرِّر أنَّ استعمال "امتحن" كما ورد في التَّرجمة العربيَّة هو الأصلح في رواية إسحق، بينما مواجهة ربِّنا مع الشَّيْطَان كانت "تجربةً" بأسوأ معناها. لا يمكننا أن نلوم الله عندما نستسلم للتَّجربة؛ فهو لا يُريدنا أن نرسب في امتِحَانات الحياة، كما يُعبِّر عن ذلك معلِّمٌ يهوديٌّ بقوله: "لا تقُل (إنَّني بسبب الرَّب قد أخفَقت)، لأنَّه ينبغي ألاَّ تفعل الأشياء التي يُبغضها؛ ولا تقُل (إنَّه هو الذي جعلني أُخطئ)، لأنَّه ليس بحاجةٍ إلى المزيد مِن الخطاة".
ولكنْ إنْ لم يكُن مصدر التَّجربة هو الله ، فمن هو إذاً؟ الشَّيْطَان هو الذي دخَل يَهُوذَا (يُوحَنَّا 13: 27). والشَّيْطَان هو الذي طلب أن يُغربل بطرس كالحنطة (لُوْقَا 22: 31). كثيرٌ مِن تجاربنا يتولَّد على نحوٍ شيطانيٍّ؛ ولكن ليس هذا ما يرمي إليه (يَعْقُوب 1). مِن السَّهل جدّاً أن ننحو باللاَّئمة على الله أو الشَّيْطَان أو سواهما عندما نستسلم لشهواتنا ومِن ثمَّ نُحِلُّ أنفسَنا مِن التِّبعة. يقول يَعْقُوب: "فلْنبحث عن سبب الخطيَّة في أنفسنا، ولا نَزِد على ضيقاتنا ضيقاً بالسَّعي خلف أحمق أهوائنا." يقول شاعرٌ اسكتلنديٌّ مِن وحي تجربةٍ مريرةٍ ألمَّت به:
" عندما لا محن حقيقية تُربكهم فإنهم يخلقون مِن أنفسهم أسباباً كافيةً لتُربكهم"
حتَّى مكايد الشَّيْطَان لا تُشكِّل خطراً ما لم نتبنَّها نحن لمآربنا الخاصَّة. لِكُلٍّ شهواته الخاصَّة النَّابعة مِن العادات والأمزجة الخاصَّة، هذه الرَّغبات التي تجذبه بعيداً عن الله (14).
إنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، أو كما يقول يَعْقُوب: "الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا" (15).
إنَّ الله، بعيداً عن امتِحَان الإنسان، يفتح لنا سبلاً للنَّجاة كلَّما ضغطت التَّجربة علينا بعنفٍ. وهو يقصد أن تكون تعاملاته معنا فرصاً ملائمةً للخير، وليست أسباباً للتَّعثُّر. يقول يَعْقُوب: "لا تُخطئوا في هذا الأمر، لأنَّ مِن السَّهل جدّاً أن نُخطئ في تقدير طُرُق الله (16). ترى الأفلاطونيَّة الخيرَ بمثابة الله، ويعرف المَسِيْحيُّون أنَّ اللهَ صالحٌ. وكلُّ عطيَّةٍ صالحةٍ (أو فعل عطاءٍ) مصدرها القدير. العطاء صالحٌ لأنَّ المُعطي كاملٌ، والمقصود بعطاياه تيسير أمورنا وإشباع حاجاتنا. ويستعمل الآب السَّماوي وسائل بشريَّةً لمنح هباته. فنشكر الله لأجل لطف الأناس الآخَرين، كما إنَّنا ممتنُّون لهم وشاكرون له. ولنَدَع "جون دون" يُعبِّر عن شكرنا للآب بالأبيات التَّالية:
"يبسط الأصدقاء أكفَّهم ويُساندوننا أمَّا يدكَ فتسند اليد التي تسندنا مِن هؤلاء أدواتك هؤلاء جميعاً قد نلتُ بركتَك يا إلهي."
قَبِلَ "وليم بوث" تبرُّعات المُلحدين لمؤازرة "جيش الخلاص". وتوضح لنا حكايةٌ طريفةٌ الوسائل الغامضة التي يسدُّ الربُّ بها حاجات أولاده: كانت ثمَّة عجوزٌ تسكن في الدَّور الأسفل مِن أحد المباني، وكانت تُعاني فقراً وعوزاً حتَّى إنَّها كانت تجد بصعوبةٍ ما يسدُّ جوعها. وفي صباح أحد الأيَّام، حين لم تجِد شيئاً لتأكله، رفعَت صوتها بحرارةٍ إلى أبيها السَّماوي ليؤمِّن لها حاجتها مِن الطَّعام. وفي تلك اللَّحظة كان جارها الملحد يمرُّ مِن أمامها، فسمع دعاءها، وعزم على أن يسخر مِن إيمانها بالله بطريقةٍ مبتكَرةٍ. فملأ سلَّةً بالخبز والزُّبْد والجبن والفواكه والخُضَر واللَّحم، ودلاَّها كلَّها مِن النَّافذة إلى داخل غرفتها. وحين عادت العجوز إلى بيتها، وجدت الطَّعام، وكان فرحها عظيماً، وفي الحال شكرت الرَّب لسخائه. وفي صباح اليوم التَّالي، قرع الملحد بابها، وإذ دعته إلى الدُّخول سألها: "هل استجاب الله صلاتك؟" أجابت: "نعم. وهو دائماً يستجيب، فهو طيِّبٌ جدّاً معي". عندئذٍ ابتسم الرَّجل وقال: "لم يكن الله، بل أنا الشَّيْطَان هو الذي أحضر تلك السَّلة". وهنا أجابت السَّيدة العجوز: "قد يكون الشَّيْطَان هو الذي أحضرها، ولكنَّ الله هو الذي أرسلها".
تُذكِّرُنا هذه الآية (17) ليس بجودة الله فقط، بل بطبيعته غير المتغيِّرة أيضاً. "المحبَّة ليست محبَّةً تتغيَّر حين تُقابَل بتغيُّرٍ". ولئن كانت محبَّته أبديَّةً (إِرْمِيَا 31: 3) فجودته أبديَّةٌ أيضاً. وعلى رأس عطاياه رحمته التي تُحْدِث ولادتنا الجَدِيْدة كأعضاء في عائلته. فقد وُلِدْنا مِن جديدٍ مِن الماء والرُّوح (يُوحَنَّا 3: 5). ويُوسِّع بولس العبارة في حديثه عن "غُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوح القُدُس" (تِيْطُس 3: 5). وأداة الوِلاَدَة الثَّانِية هنا هي "كَلِمَةُ الْحَقِّ" (18) مؤكِّدةٌ الحقيقة أنَّ الكلمة والرُّوحَ متلازمان في الوِلاَدَة الجَدِيْدة كما في خبرتنا المَسِيْحيَّة كلِّها. في مَثَل الزَّارع يؤكِّد أبونا على هذه الصُّورة أنَّ البذرة المزروعة هي كلمة الملكوت (متى 13: 19) الكلمة التي لم يفهمْها البعض، و لم يحفظها البعض الآخَر. وحيث توجد استجابةٌ حقيقيَّةٌ تكون البذرة قد سقطت على أرضٍ صالحةٍ.
بَيْدَ أَنَّ الاستعارة قد تحوَّلَت مِن الزَّرع إلى الإنجاب (والواضح أنَّ الفعل ينتمي إلى مصطلحات علم القِبالة اليونانيَّة ويتضمَّن معنى الوِلاَدَة). فهو أبو الأنوار يلدُنا موحِّداً دور الوالدَين كليهما. ونحن أولاده بالخَلق والذرِّيَّة، أولاده بالوِلاَدَة والتَّبنِّي، ولنا يقينٌ مزدوج أنَّ لا شيء يُمكن أن يفصلنا عن محبَّته.