Skip to content

Commentaries
Arabic
يعقوب
  
إسَاءة استِعمَال اللِّسَان
(3: 1- 12)
3:1لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ.2لأَِنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ الْجَسَدِ أَيْضًا.3هُوَذَا الْخَيْلُ نَضَعُ اللُّجُمَ فِي أَفْوَاهِهَا لِكَيْ تُطَاوِعَنَا فَنُدِيرَ جِسْمَهَا كُلَّهُ.4هُوَذَا السُّفُنُ أَيْضًا وَهِيَ عَظِيمَةٌ بِهَذَا الْمِقْدَارِ وَتَسُوقُهَا رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ تُدِيرُهَا دَفَّةٌ صَغِيرَةٌ جِدًّا إِلَى حَيْثُمَا شَاءَ قَصْدُ الْمُدِيرِ.5هَكَذَا اللِّسَان أَيْضًا هُوَ عُضْوٌ صَغِيرٌ وَيَفْتَخِرُ مُتَعَظِّمًا. هُوَذَا نَارٌ قَلِيلَةٌ أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ.6فَاللِّسَانُ نَارٌ. عَالَمُ الإِثْمِ. هَكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا اللِّسَانُ الَّذِي يُدَنِّسُ الْجِسْمَ كُلَّهُ وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ الْكَوْنِ وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ.7لأَِنَّ كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالزَّحَّافَاتِ وَالْبَحْرِيَّاتِ يُذَلَّلُ وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ.8وَأَمَّا اللِّسَانُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ. هُوَ شَرٌّ لاَ يُضْبَطُ مَمْلُوٌّ سُمًّا مُمِيتًا.9بِهِ نُبَارِكُ اللهَ الآبَ وَبِهِ نَلْعَنُ النَّاسَ الَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ اللهِِ.10مِنَ الْفَمِ الْوَاحِدِ تَخْرُجُ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ. لاَ يَصْلُحُ يَا إِخْوَتِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الأُمُورُ هَكَذَا.11أَلَعَلَّ يَنْبُوعًا يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ الْعَذْبَ وَالْمُرَّ.12هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُونًا أَوْ كَرْمَةٌ تِينًا. وَلاَ كَذَلِكَ يَنْبُوعٌ يَصْنَعُ مَاءً مَالِحًا وَعَذْبًا


إنَّ التَّعامل مع الكلمات، بالنِّسبة إلى بعض الرِّجال والنِّساء، هو مهنتهم الرَّئيسة: السَّاسة، والباعة في المحالِّ التِّجارية، ومروِّجو اسطوانات الأغاني، والمبشِّرون، والمعلِّمون. يُعالج هؤلاء النَّاس الكلماتِ ببراعةٍ لتحميلها الأفكار المنشودة أو حجبها، لكسب الأصدقاء والتَّأثير في النَّاس. السُّمعَة تعلو وتهبط على أساس الأثر الذي تُحْدِثه الخُطَب والبرامج والعِظات. والكلمات هي الأدوات الوحيدة التي يستخدمها الكثير مِن أَمْثَال هؤلاء "الحرفيين" (2 تِيْمُوْثَاوُس 2: 14). ويَعْقُوب يُخاطب الآن معلِّمين ومعلِّمين منتظَرين، ولكنَّ إنذاره يحمل الخير لكلِّ موهوبٍ بالكلام معنيٍّ بالمخاطر المنطوية على تقديم مصلحته الشَّخصية أو قضيَّة الله (1). لقد وضع الرب تلك الأداة العجيبة، اللِّسَان، تحت تصرُّفنا. فينبغي أن يكون هدفنا في التَّكلم عدم هدر الكلام، وعدم تحريف الكلام، وعدم الإيلام بالكلام.
"لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ": نصيحةٌ لطيفةٌ أخرى مِن رسولٍ عرف شظف الانضباط الذَّاتي. يتبوَّأ المعلِّم مركز القيادة في الكنيسة، جنباً إلى جنبٍ مع الرَّسول والنَّبي (1 كُورِنْثُوس 12: 27). والرُّسُل بعيدون في الغالب في مهامِّهم التَّبشيرية. والأنبياء أيضاً اعتادوا الأسفار البعيدة، بينما "في ديارهم" ينتظرون الرُّوح لأجل النبوءة المناسبة. المعلِّمون قائمون على رأس عملهم وفي كلِّ مكانٍ، يحرسون رعيَّتهم، ويخدمون الحاجات الرُّوحية، ويشرحون تعليم الكنيسة. ويتطلَّع أعضاء جسد المَسِيْح إليهم لأجل القيادة الأخلاقية والتَّوجيه اللاهوتي. ليس ثمَّة طلبٌ للمعلِّمين فحسْب، بل عرضٌ مستمِرٌّ أيضاً كما يظهَر.
كان المَسِيْح نفسه رسولاً ونبيّاً ومعلِّماً (عِِبْرَانِيِّيْن 3: 1). ولهذا السَّبب، إن لم يكُن لغيره، ينبغي اعتبار مكانة المعلِّم المَسِيْحيِّ عاليةً. فضلاً عن ذلك، يحثُّ الكتاب على تبجيل قادتنا الرُّوحيين، ويجب أن يدفعنا هذا إلى المزيد مِن تبجيل المعلِّم-القائد. إنَّ السَّعي لاتِّخاذ التَّعليم مهنةً لمجرَّد المكانة التي يتمتَّع بها المعلِّم هو أمرٌ تافهٌ بالتَّأكيد، وقد ينقلب إلى كارثةٍ (1 تِيْمُوْثَاوُس 3: 7؛ تِيْطُس 1: 9). فالصِّفات الرُّوحية والأخلاقيَّة السَّامية تُعتبَر مؤهّلاتٍ مناسبةً ولائقةً، ولكنْ لا غنى عن الشُّعور بالدَّعوة الإلهيَّة. "لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ هَذِهِ الْوَظِيفَةَ بِنَفْسِهِ بَلِ الْمَدْعُوُّ مِنَ اللهِ" (عِِبْرَانِيِّيْن 5: 4). وهرون الذي تقصد هذه الآية أن تُقدِّمه كمَثَلٍ، لم يكن كاملاً، ولم يملك قدرات أخيه مُوْسَى. ولكنَّ الله دعاه إلى مهمَّةٍ قياديَّةٍ محدَّدةٍ.
إنَّ قسوة حكم الله على مَن يُنصِّبون أنفسهم معلِّمين يجب أن تجعل الناس يُفكِّرون مرَّتين قبل أن يُرشِّحوا أنفسهم لهذه الوظيفة. ينتقد "كلفن" بقسوةٍ في شجبه الذين نالوا المركز ولكنهم أخفقوا في الاخْتِبَارات اللاحقة فيقول: "قليلون يمتلكون المهارة والتَّأثير، وكثيرون يندفعون ويُربكوننا في التَّعلم. قليلون يُبْدُون أيَّ اهتمامٍ بشفاء الأرواح، وكثيرون مدفوعون بريائهم".
يبدو هذا كلُّه مثبطاً للطَّامحين إلى مواقع القيادة والنُّفوذ في الكنيسة. لا بُدَّ إذاً مِن وزن كلمات يَعْقُوب باعتباراتٍ أُخرى. ألَم يلفت ربُّنا اهتمامنا إلى كثرة الحصاد وقلَّة الفَعَلَة (متى 9: 37)؟ ألَم يُرسلنا لنُعلِّم جميع الأمم؟ أوَ لا نحتاج إلى معلِّمين أكثر لتوسيع نطاق التَّربية اللاهوتيَّة في أنحاء العالم (متى 28: 20)؟ إنَّنا نحتاج إلى حكمةٍ مِن فوق للتَّوصل إلى القرار الصَّائب، أن نكون معلِّمين أو لا نكون، هذه الحِكْمَة التي مِن أجلها يحثُّنا يَعْقُوب على الصَّلاة (1: 5) والتي ستوصَف لاحقاً في هذا الأَصْحَاح.
لا تكن معلِّماً ما لم تكن متأكِّداً أنَّ الرَّبَّ قد دعاك، وما لم تكن قد قدرت مخاطر الدَّينونة الأعظم. وإذا ما قرَّرْتَ أن تُصبح معلِّماً، فاتبع النَّصيحة التي يسديها يَعْقُوب عن اللِّسَان، ونصيحة بولس حول إصلاح الكلام بملحٍ وتحليته بالنِّعمَة (كُوْلُوْسِي 4: 6).
ثمَّة طرقٌ شتَّى لمعالجة المقطع التَّالي. يُطبِّقه أحد المفسِّرين على المعلِّمين الميَّالين إلى النَّقد القاسي، الرَّاضين عن أنفسهم، ويربطه آخَر بالتَّنبيه المدوَّن في (1 كُورِنْثُوس 14: 26- 40) مِن التَّشويش الذي يُحدثه المبشِّرون والمبشِّرات وهم يحاولون جميعاً التَّكلم في وقتٍ واحدٍ. قد يفيدنا أكثر أن نتأمَّل مخاطر اللِّسَان في الأداء بدون تمييز أيِّ جماعةٍ خاصَّةٍ مِن المتكلِّمين.
"لأَِنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا" (2). يرتبط قسمٌ كبيرٌ مِن أخطائنا باللِّسَان. وفي الحقيقة إنَّ أخطاءً كثيرةً في الحكم وانحرافات الرأي تظلُّ مكتومةً ما لم تُكشَف بتصريحاتٍ نُدلي بها بتعمُّدٍ أو بدون حذرٍ. لقد نصحنا يَعْقُوب قبلاً أن نكون مُبطِئِيْنَ في التَّكلُّم (1: 19)، وألاَّ ننطلق في وابلٍ مِن الكلام شاتمين الآخرين وصافحين عن أنفسنا. وهو غير معنيٍّ خاصَّةً بالثَّرثارين مِن الرِّجال أو النِّساء، لأنَّ ما يقوله هؤلاء النَّاس غالباً هو مؤذٍ إلى حدٍّ بعيدٍ. إنَّ ذوي أحدِّ الألسنة كثيراً ما ينتقون الكلمات باهتمامٍ، فهم ظرفاء وساخرون.
إذا كان الكلام مِن فضَّةٍ فالسُّكوت مِن ذهبٍ. والتَّحفُّظ في الحديث هو، مع ذلك، أثمن قيمةً، لأنَّه يُوحِّد قوَّة الكلمات بالفضائل التي يُبديها الرِّجال الصَّامتون الأقوياء. يقول يَعْقُوب: "إن شئتَ أن تكون كاملاً، فابدأ باللِّسَان". فمن يتمتَّع بالقدرة على ضبط لسانه يتمتَّع بإمكانيَّةٍ ممتازةٍ لضبط كيانه كلِّه (26). ثمَّة درجات متعدِّدةٌ للكمال، وثمَّة نموٌّ في الكمال (عِِبْرَانِيِّيْن 5: 8، 9). وكمال الفنَّان أو عازف الكمان يختلف عن الكمال الذي يُظهره المتفوِّق في كرة المضرب (التِّنِس) أو مصمِّم الأزياء. إنَّ الرُّوح القُدُس الذي يُعطينا الكلمات الصائبة عند الضَّرورة، ويُصلِّي بواسطتنا عندما نكون منقادين به، هو ينبوع هذا الكمال في النُّطْقِ.
يستعمل يَعْقُوب في أربع آياتٍ متعاقبةٍ (3 و4 و5 و6) ثلاث استعاراتٍ للِّسان، ويُقيم العلاقة المجازيَّة. فاللِّسَان كلجامٍ (3)، دفَّةٍ (4)، نارٍ (6). يُذكِّرنا اللِّجام والدّفَّة بأنَّنا قادرون على السَّيطرة على ألسنتنا بالانضباط الذَّاتي كي نستخدمها على نحوٍ مفيدٍ. والنَّار تُعيد إلى الذِّهن خطر اللِّسَان عند استخدامه لمآرب شرِّيرةٍ. وقد وصفه أحدهم كما يلي: "اللِّسَان الحادُّ هو الأداة الماضية3 الوحيدة التي تزداد مَضَاءً كلَّما استخدمتَها".
أمَّا جموح الفرس فيمكن التَّحكُّم به، ويتمُّ ترويض الفرس وكبحه وفق مشيئة راكبه باستخدام اللِّجام4. يتذكَّر يَعْقُوب العواصف في بحر الجليل والبحر الأبيض المتوسِّط (النَّاصِرَة قريبةٌ مِن كليهما): فالسَّفينة على الرَّغم مِن حجمها وقوَّة الرِّياح العاصفة، يستطيع مُديرها أن يقودها بواسطة دفَّةٍ صغيرةٍ. وهكذا يستطيع اللِّسَان أيضاً أن يُحقِّق إنجازاتٍ عظيمةً عندما يتمُّ التَّحكم به وضبطه كما يليق. والطَّريقة الأكيدة الوحيدة لإبقاء اللِّسَان مضبوطاً ومحقِّقاً إمكانيَّاته الواعدة هي السَّماح للرُّبَّان أن يتولَّى قيادته وإدارته. "لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ" (مَزْمُور 19: 14). أوَلا يليق بنا أن نُصلِّي يوميّاً وبإخلاصٍ قائلين: "اجعَل أَقْوَالَ فَمِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ"؟
"هُوَذَا نَارٌ قَلِيلَةٌ أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ" (5). كانت حرائق الغابات المأساويَّة تتصدَّر الأخبار مؤخَّراً، لتُذكِّرنا بالأذى البالِغ الذي ينتج عن سببٍ بسيطٍ أو عملٍ فرديٍّ. فإهمال جماعةٍ مخيِّمةٍ أو شرٌّ مقصودٌ مِن عقلٍ مريضٍ يُمكن أن يؤدِّي إلى إضرام حريقٍ هائلٍ يشغل فريقاً مِن الناس مدَّة أسبوعٍ. أُطلقَت رصاصةٌ في سراجيفو وقُتل رجلٌ؛ فأطلق الاغتيال سلسلةً مِن ردود الفعل المترابطة كحلقاتٍ متسلسلةٍ بين الدُّول المجاورة والبعيدة أيضاً. وفي آخر الأمر اشتعل العالم كلُّه في نزاعٍ قاتلٍ مزَّق أوهام البشريَّة التَّفاؤليَّة إلى الأبد.
يُمكن تشبيه اللِّسَان في أسوأ حالاته (وهو غالباً ما يكون للأسف في أسوأ حالاته) بالسَّبب التَّافه على ما يبدو لحريقٍ هائلٍ. يُقال لنا إنَّ هذا العالم عالم ظُلم، نظامٌ كاملٌ متناغمٌ. الكون هو النِّظام المتناغم الشَّامل الكل، وعالمنا هو نظامٌ متناغمٌ تافهٌ بالنِّسبة إلى ما هو بَعده. والإنسان هو عبارةٌ عن عالَمٍ صغيرٍ يُمكن رؤيته كنسخةٍ مصغَّرةٍ تافهةٍ، مع أنَّه يقف كتاجٍ للخليقة. وأخيراً لدينا "اللِّسَان"، عالَمٌ صغيرٌ تابعٌ لبقيَّة الجسد الذي يخصُّه؛ ولكنَّه قادرٌ كأن يُحرِّك الناس، ويقودهم إلى الهلاك كما فعل كثيرٌ مِن الطُّغاة والحكَّام الفاسدين. يُمكننا أن نُطفئ الغاز والكهرباء حين نشاء، ولكنَّنا لا نستطيع التَّحكم دائماً بالحرائق التي تنتج عنهما.
حضر "توماس إديسون" ذات يومٍ مأدبةً أُقيمَت على شرفه. وأصغى بصبرٍ وطول أناةٍ فيما كان متصدِّر المأدبة ماضياً في سرد المخترَعَات. وأخيراً نهض المخترع العجوز، وابتسم بلطفٍ للمعجَب به، وقال: "أشكر للسَّيد ملاحظاته اللَّطيفة، ولكنَّني أُصِرُّ على إجراء تصحيحٍ. فالله هو مَن اخترع أوَّل فونوغراف، وأنا لم أخترع إلاَّ أوَّل فونوغراف يُمكن إسكاته".
"وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ" (6). ثمَّة وقودٌ مُتاحٌ لا حدَّ له لإبقاء اللِّسَان سادراً في طريقه المُهلِك. تستطيع أن تروِّض الأسود، وترقي الحيَّات، وتُدرِّب النَّسانيس والقردة على أَعْمَال الخفَّة، ولا تستطيع أن تُروِّض أو تكبح لسانَ شخصٍ آخَر . ولكنَّك تستطيع أن تروِّض لسانك وتضبطه. إنَّ آخِر ثمار الرُّوح القُدُس المُدْرَجَة في (غَلاَطِيَة 5: 23) هو التَّعفُّف أو ضبط النَّفس. ومِن الجوانب الهامَّة لضبط النِّفس لَجْمُ اللِّسَان. ثمَّة ذرائع ثلاث للَّسع باللِّسَان تُبرز طبيعته الشَّيْطَانية: (1) كتنفيسٍ عن الانفعالات المكتومة؛ (2) كإشباعٍ للحقد؛ (3) كانتقامٍ لأذىً أو ظلمٍ. ينبغي لك، بعد أخذ هذه التَّجارب في الحسبان، أن تُصلِّي دائماً قبل أن تقول أيَّ شيءٍ تريده أن يبدو ذكيّاً ومؤثِّراً أو مدمِّراً: تلميحات غير منضبطة، نكات تحمل معانٍ مبطَّنةً.
نتذكَّر سببين لكبح زلل اللِّسَان: تذكَّر الضَّرر والبؤس اللَّذين يمكنه أن يُسبِّبهما. بعد سنواتٍ ستتذكَّر الكلمة القاسية التي بدَت بارعةً في حينها، ولكنَّها سبَّبَت تلك المرارة والأسى. أمَّا السَّبب الثَّانِي فهو أخطر وأعظم شأناً، ويتضمَّن دينونةً أعظم مِن مجرَّد تأنيب الضَّمير. فربُّنا ينهانا قائلاً: "أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ" (متى 12: 36). وهذه الكلمات موجَّهةٌ إلينا جميعاً، وتشمل كلَّ ما ننطق به قصداً أو سهواً. ثمَّة كلماتٌ حكيمةٌ وكلماتٌ بطَّالةٌ، وما بينها كلماتٌ عاديَّة الاستعمال. هل يُسجِّل الله جميع الكلمات المنطوقة على مدار السَّاعة؟ يؤكِّد هذا لنا مَن يعرفون أنَّ الموجات الصَّوتية ضائعةٌ أبداً، ولكنَّها تُمتَصُّ في بنية الكون وتُحبَس حتَّى يتمكَّن أحدٌ مِن إطلاقها. إنَّ فضيحة "وترغيت" Watergate وأشرطة "نيكسون" خير مذكِّرٍ لنا بأنَّ خطايانا الكلاميَّة ستُظهِر حقيقتنا يوماً ما. الحَشْو5 لا يمكن أن يُحذَف كلِّياً أبداً.
بتناقضٍ ذاتيٍّ رهيبٍ نستخدم اللِّسَان لنُبارك به الله ونلعن النَّاس. يؤكِّد يَعْقُوب هذا تنافُر هذا الفيض العفوي مستعيناً بتشابيه ثلاثة (9 و10 و11 و12) الينبوع، وشجرة التِّين، والكرمة. ففي الطَّبيعة يأتي كلُّ أصلٍ بنوعٍ متميِّزٍ به، سواء كان مرّاً، أو حلواً، أو حامضاً، أو مالحاً، بشكلٍ واتِّساقٍ موحَّدَين تقريباً. أمَّا اللِّسَان فهو للأسف يأتي بالمرارة والحلاوة، فيمكنه أن يُمرِّر العلاقة أو أن يكون حسن الذَّوق. ويمكنه في إجراءٍ متطرِّفٍ أن يُجدِّف ويلعن ويسبَّ، كما يمكنه في إجراءٍ آخَر أن يُسبِّح ويُبارك ويُعزِّي. المصيبة هي أنَّ اللِّسَان نفسه يبعث هذا كلَّه. ولسان الشَّخص المؤمِن هو غالباً المذنب في تناقضاتٍ كهذه.
نقرأ في العَهْد القديم لعناتٍ عديدةً على آثامٍ مِن كلِّ نوعٍ، وقد وردت ثلاث لعناتٍ في "إِرْمِيَا" جديرة بالملاحظة، وهي: "مَلْعُونٌ الإِنْسَانُ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ كَلاَمَ هَذَا العَهْد" (إِرْمِيَا 11: 3)؛ "مَلْعُونٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الإِنْسَانِ" (إِرْمِيَا 17: 5)؛ "مَلْعُونٌ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ الرَّبِّ بِرِخَاءٍ" (إِرْمِيَا 48: 10). وكلمسةٍ أخيرةٍ، يلعن إِرْمِيَا اليوم الذي وُلد فيه (إِرْمِيَا 20: 14). وآخِر هذه اللَّعنات يعكس ببساطةٍ حالات الاكتئاب التي أدمنها إِرْمِيَا. وفي اللَّعنات الثَّلاث الأُخرى لا يقصد النَّبي فرداً محدَّداً، بل إنَّ اللَّعنات هي عبارةٌ عن نتيجةٍ منطقيَّةٍ. فتعدِّي ناموس الله، والاتِّكال الذي في غير محلِّه، والرِّياء أو التَّواني؛ هذه كلُّها لها عقوباتها. ويُعبَّر عن العقوبة بقوَّةٍ في كلٍّ مِن هذه الحالات بوصفها لعنةً.
إذاً كلمة الله هي التي تُنشئ اللَّعنة. والله له السُّلطان أن يحجب البركة، وأن يدين. وهذا الامتياز لا يتمتَّع به البشر. ويَسُوْع المَسِيْح الذي كان له هذا السُّلطان مِن بين النَّاس جميعاً، امتنع عن المضي إلى حدِّ لعن أيٍّ كان؛ وهو بدلاً مِن ذلك نطق بالويلات في مناسباتٍ شتَّى: للمدن التي رفضَته، وللَّذين يُعثرون الصِّغار، وللَّذي يخونه، والأكثر شدَّةً للكتبة والفرِّيسيين الذين كانوا ارتكبوا التَّعديات الثَّلاثة كلَّها (متى 11: 21؛ لُوْقَا 17: 1- 3؛ مرقس 14: 21؛ متى 23). ويتَّضح لنا مِن (مرقس 13: 17) و(لُوْقَا 6: 26) أنَّ هذه الويلات لا تتساوى واللَّعنات، بل إنَّها مشاعر حزنٍ عميقةٌ. ويحثُّنا ربُّنا حقّاً على أن نُبارك لاعنينا، على أمل أن يعكس الله اللَّعنة الواقعة على الذين ينقضون شرائعه (لُوْقَا 6: 28).
يُقدِّم يَعْقُوب لنا سببه القويَّ الخاصَّ لعدم اللُّجوء إلى اللَّعنات "النَّاسُ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ اللهِِ" (9). وهذا الشِّبْهُ هو حقيقةٌ روحيَّةٌ، وتحدٍّ للَّذين يُدركونه، وواقعٌ يُخطئ تقديره الذين ينسون أنَّ الصُّورة الإنسانيَّة قد تشوَّهَت وطُمسَت بانحراف الإنسان المتعمَّد. الله يريد، وكذلك نحن. عنده عقلٌ، وكذلك نحن. لديه شعورٌ، ونحن مخلُوْقَاتٌ ذات شعورٍ. ولكن حيثما يريد هو الخير، نختار نحن الشَّرَّ؛ وحيثما يكون تفكيره مستقيماً، يكون تفكيرنا ملتوياً. وهذا كلُّه يمكن أن يُقال عن "فاعلي الخير" الذين يحاولون إثارة الشُّعور العام لصالح "فاعلي الشَّر" (المغتصبين، والقَتَلَة، والإرهابيِّين، وأَمْثَالهم). فهُم يُدركون بوضوحٍ كرامة الحياة الإنسانية. والصُّورة موجودةٌ حتَّى وإن أخفقوا في تحرِّي الأصل. ويمكن تصحيح الصُّورة وتحويلها إلى شِبْه ابن الله (1 يُوحَنَّا 3: 2).