Skip to content

Commentaries
Arabic
يعقوب
  
الحِكْمَة التي مِن فَوق
(3: 13- 18)
3:13مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّف الْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ الحِكْمَةِ.14وَلَكِنْ إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَزُّبٌ فِي قُلُوبِكُمْ فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ.15لَيْسَتْ هَذِهِ الحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ.16لأَِنَّهُ حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَزُّبُ هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ.17وَأَمَّا الحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ ثُمَّ مُسَالِمَةٌ مُتَرَفِّقَةٌ مُذْعِنَةٌ مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ.18وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَمَ


إنَّ رسالة يَعْقُوب هي أقرب كتابات العَهْد الجَدِيْد لذاك النَّوع مِن الكتابة المعروفة في العَهْد القديم بأدب الحِكْمَة. وفي هذا المقطع يسعى الرَّسول إلى التَّمييز بين ما يُظَنُّ أنَّه حكمةٌ وهو ليس حكمةً، وما تُعلن كلمة الله أنَّه حكمةٌ. كان يَعْقُوب قد ذكر قبلاً شروط نَيْل الحِكْمَة مِن الله (1: 5)، وهو الآن يصف طبيعة هذه الحِكْمَة وثمارها.
الحِكْمَة عطيَّةٌ مِن الله استجابةً للصَّلاة بواسطة روح الله. والله نفسه حكيمٌ، ويتبع ذلك أنَّه يُنزل حكمته على الرِّجال والنِّساء المخلوقين على صورته (دَانيَال 2: 20؛ أَمْثَال 4: 5- 7). كان للمصريِّين والبابليِّين واليونانيِّين آلهةٌ للحكمة. أمَّا إلهنا فهو وحده الحكيم (رومية 16: 27؛ 1 تِيْمُوْثَاوُس 1: 17؛ يَهُوذَا 25) والكلِّي الحِكْمَة. لا يقدر مَن يزور استانبول إلاَّ أن يتأثَّر بالصَّرح الفخم الذي يُطلُّ على مشهد المدينة، "أيا صوفيا" الذي كان يوماً ما يُضاهي ما يُعرَف اليوم بمتحف القدِّيس بطرس في روما. إنَّ تعيين المَسِيْح بالحِكْمَة المُفرَدة لشخصه هو فكرةٌ رئيسيَّةٌ راسخةٌ في التَّقليد الأرثوذكسي (أَمْثَال 8). فيه مُذَّخَرٌ جَمِيعُ كُنُوزِ الحِكْمَة وَالْعِلْمِ (كُوْلُوْسِي 2: 3) ولَنَا صارَ حِكمَةً (1 كُورِنْثُوس 1: 30). وبينما رأسُ الحِكْمَة مخافة الله، تؤدِّي معرفة المَسِيْح إلى اكتشاف كنوز الحِكْمَة (متى 13: 44- 46).
يُروى أنَّ "سنيكا" قال: "تُعلِّمنا الحِكْمَة أن نُحسن التَّصرُّف، وأن نتحدَّث أيضاً". ينبغي أن تُفحَص أيُّ مزاعم حول اقتناء الحِكْمَة في ضوء الآية (13). أظهِر بحياتك الفاضلة وجهودك العمليَّة أنَّك حكيمٌ وفطِنٌ. البساطة والوداعة والتَّواضع هي البرهان على أنَّ المواهب موضوعةٍ للاستعمال الحكيم، وليست معروضةً فقط كي تُخلِّف انطباعاً قويّاً في نفوس الآخرين. لقد أدرك فرعون في يوسف رجلاً بصيراً وحكيماً (تكوين 41: 39). وقبل تلك المقابلة، كان سلوكه نموذجيّاً، مقاوماً للتَّجربة، ومُبدياً اهتماماً عمليّاً لإخوته في الإنسانيَّة (تكوين 39: 9، 22). وكلَّما برزت كلمة "وداعة" نتذكَّر أن مُوْسَى كان أودع البشر. وهو يستحقُّ أيضاً أكثر مِن سليمان أن يُلقَّب "بالحكيم". فكان الصَّبر في وجه الإهانة والأذى علامةً لهذين القائدين أكثر منها للملك.
"طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَِنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ". ضع على محاذاة هذه الطُّوبى وعد المرنِّم: "يُدَرِّبُ الْوُدَعَاءَ فِي الْحَقِّ, وَيُعَلِّمُ الْوُدَعَاءَ طُرُقَهُ" (مَزْمُور 25: 9). الحِكْمَة الحقيقيَّة تجعل الناس ودعاء. والعكس صحيحٌ، فالله يهب الحِكْمَة السَّماوية للمتَّضعين.
بعد ذلك يتأمَّل يَعْقُوب البديل البغيض لوداعة الحِكْمَة، وهذا البديل غير المرغوب فيه في أيِّ ظرفٍ مِن الظّروف يُظهر نفسه بمظاهر شتَّى. ويذكر يَعْقُوب اثنتين فقط مِن ممارساته المشبوهة: الغَيرة المُرَّة والتَّحزُّب (14). ويُمكن أن تعني العبارة الطُّموح المفرط في السِّياق السِّياسي. بَيْدَ أَنَّ الطُّموح بأيِّ اسمٍ أو أيِّ مجالٍ هو تافهٌ عندما يكون أنانيّاً. وضع دِيُوتْرِيفسُ نفسه أوَّلاً (3 يُوحَنَّا 9) ولا شكَّ أنَّه قد سبَّب الكثير مِن الحزن والمرارة.
كان يَعْقُوب أسقف الكنيسة في عاصمة المَسِيْحيَّة الرُّوحية. وكان عالماً بمخاطر المنصب العالي. والله يُقيم قادةً للجماعات المتفرِّقة من شعبه في كلِّ عصرٍ. ويجب أن يكون ممكناً تولِّي مسؤوليَّة الرئاسة أو القيادة بدون الوقوع في فخِّ الغَيرة والطَّمَع؛ كما إنَّ التَّحزُّب مرضٌ يُصيب الكثيرين ممَّن لا يمضون بعيداً أبداً بخططهم لبلوغ القمَّة، وبالتَّالي يلوذون بالغيرة.
هل صحيحٌ ما يُقال إنَّ يَعْقُوب لا يُقدِّم لنا في أيِّ مكانٍ "تحليلاً شاملاً" للحكمة، وكأنَّ هذا الأمر ممكنٌ في رسالةٍ قصيرةٍ كهذه. الوداعة صفةٌ واحدةٌ مِن صفات الإنسان الحكيم، ولكنَّها ضروريَّةٌ للقبول الإلهي. لا يُناقش يَعْقُوب القدرات الفكريَّة التي تواكب عموماً الحِكْمَة والفهم. ويكفيه أنَّ على الذين يطمحون إلى أن يُصبحوا قادةٌ أو معلِّمين ويَفترضون أنَّهم يتمتَّعون بالقدرات اللاَّزمة أن يتذكَّروا أنَّ الله يُقاوم المستكبرين ويُبارك الودعاء. يختار "توينبي" ضرْباً واحداً مِن ضروب المهارة تُعوزه الحِكْمَة، فيقول: "إنَّ البراعة التكنولوجيَّة ليست في ذاتها ضمانةً للحكمة أو البقاء".
ينبغي إضافة أمرَين بخصوص الحِكْمَة الكاذبة pseudosophia وهما المنشأ والنَّتيجة (15، 16). فهي عالميَّةٌ، أرضيَّةٌ، مواكبةٌ للمصلحة الزِّائلة، والأنماط السَّائدة، وأساليب التَّحايل الشَّائعة والأرباح الهامشيَّة. وكونها عالميَّةٌ هي أيضاً نفسانيَّةٌ تحتقر كلَّ ما هو حقيقيٌّ ورؤوفٌ بوصفه فكراً سماويّاً، بينما يُمكن تقديم المصلحة الشَّخصيَّة بممارساتٍ مريبةٍ وجائرةٍ. وأسوأ مِن ذلك كلِّه أنَّها شيطانيَّةٌ. الذَّكاء الخبيث يُضْرَم مِن جهنَّم (6)، وهو مُشبعٌ بالحِكْمَة الكاذبة التي يمدُّه بها إبليس الذي يحقنه جذلاً بالافتراء والسّخرية ويُلقِّمه أطباق الدَّعارة كي ينقلها لسانه إلى الآخَرين.
بينما تظهر الحِكْمَة الحقيقيَّة في التَّصرف الحسَن (13)، تنسجم الحِكْمَة أو البراعة الشَّيْطَانية مع الأفعال الشِّريرة مِن كلِّ نوعٍ مُحْدِثةً التَّشويش (16). فالشَّر يزدهر حيث ينهار النِّظام والانضباط، وكذلك الأمر عندما يُطلَق العنان للشَّر تعمُّ الفوضى. إنَّ الجملة الأخيرة في سفر القُضَاة هي تعليقٌ تاريخيٌّ مناسبٌ على هذه النَّتيجة: "كُلُّ وَاحِدٍ عَمِلَ مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْهِ"؛ وساد التَّشويش.
إنَّ المقطع كلَّه (13- 18) مِن حيث المضمون يؤكِّد دور الحِكْمَة وعلاماتها، حتَّى عندما توصَف مثيلتها الكاذبة. وفي الآيات الختاميَّة مِن الأَصْحَاح يُورد يَعْقُوب بصراحةٍ الرُّؤية الكتابية للحكمة الأصيلة. فهي ككلِّ عطيَّةٍ صالحةٍ لها منشأٌ سماويٌّ (1: 17)، وآتيةٌ مِن فوق (كُوْلُوْسِي 3: 1). وينبغي أن نبحث موقنين أنَّ الذين يطلبون يجدون. والحِكْمَة التي مِن فوق لها امتيازٌ سباعيٌّ: الطَّهارة، والمُسَالَمَة، والرِّفْق، والتَّعقُّل، والإثمار، ووحدة الهدف، والصِّدق.
طهارة القلب سمةٌ داخليَّةٌ تجعل معاينة الله حقيقةً حيَّةً (متى 5: 8). وإذ نراه أبداً أمامنا لا نتزعزع (مَزْمُور 16: 8). وفي سبيل الحياة تؤمِّن معالمُ الحِكْمَة سفراً آمناً (مَزْمُور 16: 9- 11). وثاني هذه المعالم كلمةٌ صعبةٌ "المُسَالَمَة" تُترجِم، كاسم معنىً، الصِّفة اليونانيَّة eirenic . فالحِكْمَة مُسالِمةٌ، وهي "تُهدَّئ" حيث يوجد توتُّرٌ في محيط الأسرة، وفي اجتماعات الكنيسة، وعلى المستوى المدنيِّ أو الوطنيِّ.
والصِّفتان اللَّتان تتبعان epieikés و eupeithés لهما حلقةٌ معاصِرةٌ عندما يُستعمَلان بالطَّريقة الكلاسيكيَّة. ويُمكن ترجمتهما "مترفِّق وعاقل". نتحدَّث عن التَّحكيم والتَّوفيق عندما تظهر مناوشاتٌ في قطاع العمل – الإدارة. ويُمكن أن تعني الصِّفة الأَوَّلى الإنصاف "الرَّغبة في تسوية المسألة بواسطة الكلام بدلاً مِن اتِّخاذ إجراءات عمليَّةٍ؛ وتفضيل التَّحكيم على الحُكم". أمَّا الكلمة الثَّانِية فهي عكس "عنيد". فبالإنصاف مِن جهةٍ والتَّعقُّل مِن جهةٍ أُخرى لن يكون مِن الصَّعب حلُّ أيِّ خلافٍ.
اللُّطف ثمرةٌ مِن ثمار الرُّوح، ويمكن إضافة صفة الرَّحمة إلى القائمة. وللحصول على قائمةٍ أملأ للثِّمار الصَّالحة لا بدَّ لنا مِن البحث في مكانٍ آخَر مِن العَهْد الجَدِيْد. فالملء والغنى لا يعنيان قائمة طويلة بهذه الفضائل مع الرِّضا الذي يأتي مِن تلاوتها بالتَّرتيب الصَّحيح، بل الممارسة الدَّائمة والمنتظمة لكلِّ ما يتضمَّنه حمل الثِّمار. أمَّا الصِّفتان الأخيرتان فتتحدَّثان عن سجيَّتَين أُخريَين تُضفيان القوَّة والجمال على الشَّخصية المَسِيْحية، "عديمة الرَّيب والرِّياء". إنَّ توطيد العزم على الإخلاص في جميع تصرُّفاتنا، يُنجِّينا مِن التَّباهي والتَّفاخُر، ويجذب النَّاس إلى الرَّب بواسطة شهادتنا الصَّادقة.
"الثَّمَر المزروع" تعبيرٌ صعبٌ، ويجب أن يؤخَذ كمؤشِّر إلى المستقبل. ويُمكن أن يُصاغ كما يلي: "إنَّ صانعي السَّلام، في جهادهم لأجل السَّلام، يزرعون بذاراً يحمل ثمراً مِن النَّوع الذي يرفع شأن الجماعة أو الكنيسة أو الأمَّة" (18).