Skip to content

Commentaries
Arabic
يعقوب
  
الحياة الدُّنيوية وحيَاة التَّقوى
(4: 1- 10)
4:1مِنْ أَيْنَ الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا مِنْ لَذَّاتِكُمُ الْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ.2تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ. تَقْتُلُونَ وَتَحْسِدُونَ وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا. تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ لأَِنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ.3تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ لأَِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيًّا لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ4أَيُّهَا الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ فَقَدْ صَارَ عَدُوًّا لِلَّهِ.5أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ بَاطِلاً. الرُّوحُ الَّذِي حَلَّ فِينَا يَشْتَاقُ إِلَى الْحَسَدِ.6وَلَكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ. لِذَلِكَ يَقُولُ يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً.7فَاخْضَعُوا لِلَّهِ. قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ.8اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ.9اكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَابْكُوا. لِيَتَحَوَّلْ ضَحِكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ وَفَرَحُكُمْ إِلَى غَمٍّ.10اتَّضِعُوا قُدَّامَ الرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ


الحرب والسَّلام متلازمان على الدَّوام، يقتضي أحدهما الآخَر ضمناً، وينطوي أحدهما على الآخَر بداهةً. وفي مكانٍ ما من العالم ثمَّة حربٌ قائمةٌ الآن، والمساعي تُبذَل لتوطيد السَّلام (متى 24: 6). وفي مكانٍ آخَر يُوجد سلامٌ تشوبه تهديدات الحرب. تتوق النِّساء إلى السَّلام، والرِّجال يتهيَّأون للحرب. مِن السَّلام كموضوعٍ (3: 18)، يتحوَّل يَعْقُوب إلى الحرب (4: 1) – حرب أهليَّة، حرب داخليَّة هي للتَّوِّ أضرى وأرهق مِن النِّزاعات الخارجيَّة. أين سننشد أسباباً للنِّزاع؟ "مِنْ أَيْنَ الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟" الجواب واضحٌ: "الذَّنْبُ، يا عزيزي بروتس، لا يقع على النُّجوم، بل هو كامنٌ في نفوسنا التي نأتمر لها".
مِن السِّمات المميِّزة لأسلوب الرَّسول استخدامه السَّخي لأدوات الاستفهام (حوالي 22 مرَّة). وبعض هذه الأسئلة بلاغيٌّ كما يتَّضح، والآخَر يقصد به أن يستخرج مِن قرَّائه ما ينبغي أن يعرفوه بأنفسهم عن أنفسهم. والنِّزاعات التي يتحدَّث يَعْقُوب عنها ليست فحسْب بينهم، ولكنَّها في كلِّ واحدٍ منهم على حدةٍ. فالصِّراع الدَّاخلي يزداد سوءاً بالخصومات والعداوات المُضمَرَة ضمن المجموعة، والتي تكون نتيجتها كلّها الحرب. والمفردات المستعملة تؤكِّد على العنف: فالكلمة المستعملة للحروب polemoi تفيد الهجوم العنيف، والعبارة المستعملة للخصومات machai ذات صلةٍ بالكلمة اليونانيَّة المستعملة للسَّيف، بينما الفعل مشتقٌّ مِن الجذر الذي هو أصل المصطلح العسكري "استراتيجيَّة". والانطباع الكلِّي في هذا المقطع شديدٌ ومتَّقدٌ يعكس عنف الحرب الرُّوحية التي تبدو مِن تحت جسديَّةً.
ثمَّة صراعٌ ناشبٌ في القلب البشريِّ بسبب طبيعته المخادِعة والشِّريرة إلى حدٍّ خطيرٍ (إِرْمِيَا 17: 9). وربُّنا الذي أتى ليُكمل الحقائق التي يُعلِّمها النَّامُوْس والأنبياء يفصِّل مظاهر الفساد بصورةٍ أدقّ: "مِنَ الدَّاخِلِ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ زِنًى فِسْقٌ قَتْلٌ سِرْقَةٌ طَمَعٌ خُبْثٌ مَكْرٌ عَهَارَةٌ عَيْنٌ شَرِّيرَةٌ تَجْدِيفٌ كِبْرِيَاءُ جَهْلٌ" (مرقس 7: 21). وكان يَعْقُوب قبلاً قد عزل القَتْل والزِّنى بوصفهما تعدِّيَيْن نموذجيَّين سيِّئَي السُّمعة للنَّاموس (شَرِيْعَة مُوْسَى). وهذان الاثنان مُكرَّران هنا ليس كانتهاكين افتراضيَّين، بل كحقيقتَين ذاتيَّتَين أو موضوعيَّتَين تُثبتان معصية الإنسان وذَنْبَه أمام الله.
يستطيع بولس أن يتحدَّث عن النَّامُوْس الآخَر الذي يعمل في أعضاء المرء ويُحْدِث حرباً لا نهاية لها بين الجسد والرُّوح (رومية 7: 23). واستعماله المتناقض لعبارة "ناموس" (النَّامُوْس مقدَّسٌ، ولكن ينبغي أن نتحرَّر منه؛ رومية 6: 15؛ 7: 12) يتضارب وموقف يَعْقُوب، فالأخير لديه ناموسٌ واحدٌ كاملٌ، ناموس الحرِّية، النَّامُوْس الملوكي (1: 25؛ 2: 8). وما يصفه في هذا المقطع هو حالةٌ مِن اللاَّناموسيَّة، مِن الفوضى في الإنسان حين تستعر عواطفه وشهواته وغرائزه التي تنشد الملذَّات الرَّخيصة. تتصوَّر طريقة التَّحليل النَّفسي الحديثة حالةً مساويةً مِن التَّشويش. وقد بات هذا المُصطَلَح شائعاً، وهو يتحدَّث عن الشَّهوة الجنسيَّة libido 6 والهذا id 7، والثَّانِي لاأخلاقي، أنانيٌّ، يحكمه مبدأ المتعة – الألم، يفعل ما يشاء ويتجنَّب ما يجده مؤلماً.
عندما تحبط الرَّغبة تتحوَّل إلى عنف (الآية 2). كان يَعْقُوب يكتب في وقتٍ كان فيه الغُيُر8وغيرهم مِن المتعصِّبين في الشَّعب اليهودي يستعدُّون لحربهم الانتحاريَّة ضدَّ روما. وكان العديد مِن المَسِيْحيِّين قد سقطوا ضحيَّة العنف النَّاشئ. وهذه التَّعابير القاسية ملائمةٌ للمتعصِّبين اليهود غير المهتدين. إنَّما يمكن إعطاء الأسفار المقدَّسة تطبيقاً أوسع. وعلى الملحدين والمؤمنين على حدٍّ سواء أن ينتبهوا إلى التَّحذير المتضمَّن في هذه الآيات: إنَّ الرَّغبة الجامحة لا تشبع إلاَّ بإلحاق الضَّرر بجهةٍ أُخرى. ومَن يشتهِ بجنونٍ شيئاً ذا قيمةٍ ظاهريَّةٍ كثيراً ما يرغب لو أُزيح المالك السَّابق مِن طريقه. وقد يكون مُشتهي ما هو لغيره داوداً تقيّاً، أو أخاباً ملحداً. ورذائلنا تشنُّ غاراتها علينا بغدرٍ، وتُحوِّل حياتنا إلى ساحة معركةٍ: "إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ".
وكما الأفكار الشِّريرة تخرج مِن القلب، "في القلب أيضاً نربح المعارك" كما قال "تشرتشل" عن محاربين في المعركة. بالنِّسبة إلى المَسِيْحي، يأتي النَّصر مع نعمة الله بواسطة الصَّلاة. في هذه النُّقطة يُقدِّم يَعْقُوب موضوع الصَّلاة على نحوٍ غير مباشَر بلَفْت انتباهنا إلى بعض العوائق. فكلَّما برزت مشاكل في أيِّ مجالٍ، نطلب مشورة الخبير في ذلك المجال. ويَعْقُوب هو الرَّجل الذي ينبغي الاستماع إليه في موضوع الصَّلاة. كانت ركبتاه متصلِّبتَين كركبتَي الجمل مِن السَّاعات الطَّويلة التي كان يقضيها راكعاً في الصَّلاة. وكان قد أشار قبلاً كيف ينبغي لنا أن نُصلِّي، وأكَّد لنا سخاء الله الذي لا ينضب (1: 5، 6).
يُمكن ردُّ اشتهاء ما للغير إلى غريزة التَّملُّك في الإنسان. ولهذه الغريزة في ذاتها وظيفةٌ مميّزةٌ كجزءٍ مِن البنية السَّيكولوجيَّة للمرء. فهي تدفعنا إلى طلب المعرفة، والاستمتاع، والثَّروة، في أمورٍ تُرَى وتُسمَع وتُذاق وتُجَسُّ (2 كُوْلُوْسِي 20- 23). "تشتهون" و"تحسدون" هما في الواقع ترجمةٌ للفعلَين كما وردا في الأصل اليوناني. والرَّغبة في أمرٍ ما، أو الجدُّ في طلبه، يُمثِّل في البوذيَّة الخطيَّة الأصليَّة، ويُصبح التَّخلُّص منها ذروة التَّحرُّر مِن العبوديَّة الأرضيَّة. والأمر مختلفٌ في المَسِيْحيَّة: فالكتاب يحثُّ المَسِيْحيَّ جدِّياً على الجدِّ لأحسن الأمور (1 كُورِنْثُوس 12: 31). وثمَّة أهداف لا حصر لها يستطيع المَسِيْحيُّ أن يرغب فيها ويجدَّ في طلبها مطمئنّاً بأنَّه لم يرتكب أيَّ خطأ بذلك. وأخيراً، اللهُ يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنًى لِلتَّمَتُّعِ (1 تِيْمُوْثَاوُس 6: 17) كنوز الفنِّ والأدب، بهجة الصَّداقة، جمال الطَّبيعة، الحيويَّة التي تنشأ عن الرِّياضة البدنيَّة. ولا يحدُّ نطاق استمتاعنا سوى عامل الوقت وقدرتنا على الاستغراق.
ولكن بنقلةٍ لفظيَّةٍ بارزةٍ، تحلُّ الشَّهوة محلَّ الرَّغبة المشروعة، حين نشتهي ما هو للآخَر، أو نتوق إلى أشياء قد منعنا اللّه في حكمته منها. لقد تمَّت الإشارة إلى أنَّه قبل مائة سنةٍ كان ثمَّة حبٌّ وكانت ثمَّة شهوةٌ، وكان الجميع عالماً بالفرق، والآن لا يوجد سوى الجنس. يُحاول المجتمع المتساهل طمس مثل هذه الفوارق الحيويَّة. وهذه مُلزمةٌ دائماً للمسيحيين الأتقياء. إذا كان الدَّافع وراء الرَّغبة شرِّيراً، فلن يستجيب الله طلبتنا؛ وإذا كانت الغاية المرجوَّة (والمرجوَّة هنا ليست مرادفاً للمرغوب فيها) أمراً محرَّماً، فالدَّافع لا شكَّ خاطئٌ، والله سيمسكه عنَّا لمصلحتنا. وثمَّة أيضاً الإمكانية المشوِّشة التي يُلمع إليها (المَزْمُور 106: 14، 15) أنَّ الطلبات الحمقاء قد تُلبَّى في بعض الأحيان. لاحِظ مرَّةً أخرى السَّياق هناك سياق "اشتهاءٍ إلى أبعَد حَدٍّ". إنَّنا عندما نذهب إلى السَّماء، سنشكر الرَّب لأنَّ الكثير مِن صلواتنا لم يُسْتَجَب.
يوحي الطِّلب بطريقةٍ خاطئةٍ أنَّ النَّاس يطلبون للأسباب الخاطئة وبنيَّاتٍ خاطئةٍ. تهدف الطِّلبة إلى تعزيز "الأنا" وجعلها تجذب اهتمام المُعجَبين بها المُحتَمَلين، أو سوى ذلك إلى تجهيز "الطَّالِب" بنوع الميزة التي تمنحه تعبيراً أعلى عن ذاته.
الشَّهوة والزِّنى صنوان، يمضيان معاً، ويتقدَّم أحدهما الآخَر. في الآية التَّالية (4) يُبدِي يَعْقُوب صرامة نبيٍّ مِن العَهْد القديم، ويَنعت فاعلي الإثم بالزَّواني (إنَّ أفضل المخطوطات تحذف الجمع المذكَّر "الزُّناة"). ويُفهَم هذا النَّعْت، على أفضل وجهٍ، مجازيّاً، باعتبار أنَّ العبارة "شهوات" تشمل جمعاً مِن الرَّغبات المتضاربة، التي ليست جنسيَّةً دائماً (حزقيال 16: 32؛ متى 12: 39).
والزَّنى بهذا المعنى الأوسع لا يزال يستحقُّ وصفاً آخَر "محبَّة العالم" (والتَّرجمة الدَّقيقة لهذه العبارة هي "صداقة العالَم") والعبارة اليونانيَّة philia تعني الصَّداقة الأقرب للتَّعلُّق. فمُحبُّو العالم يُبدِّدون وقتهم كما هو متوقَّعٌ توَّاقين إلى المُقتنيات العالميَّة مِن حيواناتٍ أو موادّ، أو خضَر. وقد ساوى يَعْقُوب بين صداقة العالم والعداوة لله. فالزِّنى يجذبنا بعيداً عن الهدف النَّبيل لمحبَّتنا إلى بدائل خسيسةٍ.
"عدوّاً لِلَّهِ" تُعزِّز هذه العبارة الإدانة الكامنة في السُّؤال البلاغيِّ المطروح سابقاً. وتُذكِّرنا أيضاً بإِبْرَاهِيْم خليل الله (2: 23)، اللَّقب القرآني المفضَّل لهذا الأب، والاسم العربي لحبرون حيث يوجد قبره. وقد تمَّ التَّعبير عن هذه الصَّداقة التَّاريخيَّة باتِّكاله على يهوه حين ابتعد عن سدوم، وبتقديمه ابنه إسحق ذبيحةً. وبهذه الخطوات يمكننا نحن أيضاً أن نقتدي به ونصير أخلال أو أصدقاء الله (يُوحَنَّا 15: 14، 15).
الآية التَّالية (5) صعبةٌ. "الكِتَابُ يَقُولُ بَاطِلاً". أين يقول الكتاب هكذا؟ لقد كانت الأسفار المقدَّسة أقدس الكتابات في عهد يَعْقُوب والتي كان مُلِمّاً بها. وقد اعتنقتها كنائس أكثر مِن تلك التي اعتُبرت قانونيَّةً فيما بعد؛ كما إنَّه توجَد مقاطع عديدةٌ مِن العَهْد القديم لم يُستشهَد بها قَطُّ في العَهْد الجَدِيْد، والتي قبلتها الكنيسة حسب الأصول بصفتها قانونيَّةً.
ولكنْ ما معنى هذه الآية؟ لا يمكن أن تعني ما توحي به التَّرجمة المعتَمَدة، ولا حتَّى لو ضمَّنَّا الفعل المضارع معنى الاستمراريَّة والدَّيمومة "يشتاق دائماً إلى الحسد". ويمكننا أن نُعيد سبك العبارة من جديدٍ كما يلي: "الرُّوح القُدُس الحالُّ فينا يغار علينا لمصلحته"، أو بحسب ترجمة أورشليم للكتاب المقدَّس: "يحنُّ بشدَّةٍ إلى الرُّوح الذي أحلَّه فينا". إنَّ بعض هذا التَّفسير مناسبٌ وموافقٌ للحقيقة أن الرُّوح يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ ويحزن لضعفاتنا (رومية 4: 26؛ أَفَسُس 4: 30).
ولو فرضنا أنَّ الله هو الذي يغار شوقاً على الرُّوح الذي أحلَّه فينا (5)، فإنَّنا ننتظر منه أن يهَب نعمةً أعظم لِمَن يحلُّ الرَّوح فيهم (6): نعمة فوق نعمةٍ (يُوحَنَّا 1: 16). وهو، بعد أن أعطانا نعمةً فوق نعمةٍ أوَّلاً بواسطة الإيمان ليُخلِّصنا، يُنعم علينا بسخاءٍ بالمزيد. فمجرَّد حضور روحه هو عربون العطايا الأعظم التي سيغدق بها على ذوي القلوب والأيدي المفتوحة. وهي ستكون مِن نصيبك بحسب إيمانك.
الاقتباس في الشَّطر الثَّانِي مِن الآية 6 مأخوذٌ مِن التَّرجمة السَّبعينية لسفر الأَمْثَال (3: 34) مع إبدال "الرَّب" "بالله". فكلمة "الرَّب" مستعملةٌ على نحوٍ موحَّدٍ في كلِّ مكانٍ مِن ذلك الأَصْحَاح في سفر الأَمْثَال. وفي العبريَّة نفهم معنى "هو" موبِّخاً أو مستهزئاً بالمستهزئين: الأشخاص البارزين بحضورهم، الذين هم بالتَّالي مستهزئون أو مستكبرون. يُدخِل بطرس الاقتباس نفسه في رسالته (1 بطرس 5: 5) مكرِّراً النَّهي عن الاستكبار، ومستردّاً للمتواضع مَعِين نِعَم الله الذي لا ينضب.
يقوم التَّواضع على الخضوع لله، هذا الإجراء الذي تُوصي به الآيتان 7 و10. ويُمكن امتِحَان أصالة هذا الخضوع، هذا التَّسليم الذَّاتي، بموقفنا مِن الآخَرين. هل نحن طامسون ذواتنا؟ هل أعتبر الآخَرين أفضل منِّي؟ (فيلبي 2: 3). إنَّ الإسلام، على الرَّغم مِن زعمه الاستسلام لله، بوصفه الرِّسَالَة الرئيسيَّة التي يُنادي بها، يُخفق هنا لأنَّه يُولِّد نقيض التَّواضع: التَّكبر على "الكفَّار" واحتقارهم.
لا يجوز تضمين الوداعة معنى الضَّعف. فالخاضعون لله مطالَبون بمقاومة الشَّيْطَان كلَّما حاول أن يُجرِّبهم. وهذه المقاومة المطَّردة قمينةٌ بأن تجعلنا مسيحيَّين أقوياء. والله الذي يُقاوم المستكبرين، يشنُّ حرباً دائمةً على عدوِّ نفوسنا المستكبر. ويُقدِّم بطرس لنا الفكرة نفسها عندما يحثُّنا على مقاومة الخصم الذي يجول كوحشٍ مفترسٍ ملتمساً مَن يبتلعه (1 بطرس 5: 8، 9). إنَّنا نغلب بيقظةٍ دائمةٍ في علمنا اليقين أنَّ المَسِيْحيِّين في كلِّ مكانٍ قد تألَّموا وقاوموا، ولكنَّهم برزوا منتصرين (1 بطرس 5: 10). وفوق ذلك كلِّه، لنا المَثَل الأعلى يَسُوْع، رائد إيماننا الذي بخضوعه لله قاوم الشَّيْطَان وجعله يلوذ بالفرار (متى 4: 7، 10، 11).
لكنَّنا نقرأ في (لُوْقَا 4: 13) فارق يَسُوْع إلى حينٍ ليعود في وقتٍ مناسبٍ. ينبغي أن نُعامل هرب الشَّيْطَان منَّا كمجرَّد تراجُع تكتيكي مقصود به تحقيق غرَض معيَّن. ونحن نعلم أنَّه يشنُّ هجوماً معاكساً في لحظاتٍ تناسبه ولا تُناسبنا. آخذين هذا بعين الاعتبار، ينبغي لنا أن نكون متيقِّظين، فنقاومه على الدَّوام كلَّما انتقم.
لقد أشرنا في المقدَّمة إلى استخدام يَعْقُوب المتكرِّر لصيغة الأمر. ونجد هذه الصِّيغة بخاصَّةٍ في الآيات مِن 7 إلى 10: اخضعوا، قاوموا، اقتربوا، نقُّوا، طهِّروا، اكتئبوا، نُوحُوا، ابكُوا، اتَّضعوا. كثيراً ما تُقدَّم أبجديَّة الأمر في توابع البشيرين كدليل للسَّائل (اقبَل، آمِن، اعترِف). والقائمة التي يُسلِّمها يَعْقُوب أكمل وأكثر توازناً. فالاكتئاب والنَّوح والبكاء تُعبِّر عن ندم حقيقيٍّ. والخضوعٍ والانجذاب إلى الله يفيدان أنَّ الإيمان عاملٌ. ودم المَسِيْح طوال الوقت يُنقِّي ويُطهِّر مَن اتَّخذ هذه الخطوات.
"اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ" (8): كلمات تعزيةٍ جميلةٌ للخطاة والمتردِّدين. إذا كنَّا قد اقتربنا يوماً إلى الرَّب، فيجب أن نتمسَّك بهذا الوعد المشروط ونُحقِّقه يوميّاً. يُخبرنا سفر المزامير أنَّ الرَّب قريبٌ مِن المنسحقي الرُّوح والمُنكسري القلوب (مَزْمُور 34: 18) ولكلِّ الذين يدعونه (مَزْمُور 145: 18). ويشير يَعْقُوب إلى النقطة نفسها، مؤكِّداً مسؤوليَّة الإنسان عن اتِّخاذ خطوةٍ أقرب تجاه الآب المنتظِر.
التَّنقية المتصوَّرة هنا (8) وفي أيِّ مكانٍ آخر مِن كلمة الله هي خارجيَّةٌ وداخليَّةٌ، يداً وقلباً (مَزْمُور 24: 4)، أخلاقيَّةٌ وروحيَّةٌ بمعنىً شاملٍ. إنَّ طقس غسل اليدَين والقدمَين عند اقتراب الكاهن مِن المذبح أو دخوله الخيمة كان قد اتَّخذ معنىً باطنيّاً أعمق في المزامير والأنبياء (مَزْمُور 26: 6؛ إِشَعْيَاء 1: 15، 16). وفي الأداء الرَّمزي لغسل القدمَين يستعمل ربُّنا الجزء للكُلِّ على نحوٍ مجازيٍّ، ويُصرُّ على أنَّ الذين رفضوا أن يغسل لهم أقدامهم لا نصيب لهم معه (يُوحَنَّا 13: 8). يُشير "وستكوت Westcott في تعليقه على (1 يُوحَنَّا 3: 3) إلى أنَّ العبارة اليونانية للتَّطهير لها مدلولٌ شخصيٌّ وباطنيٌّ أكثر مِن التَّنقية التي نُريد بها القلب واليد على التَّوالي.
الاكتئاب وشدَّة النُّواح لا يؤدِّيان إلى التَّوبة، بل يُرافقانها عادةً. ثمَّة حزنٌ (حزنٌ في سبيل الله) يُعْقِب توبةً فيها خلاصٌ بلا ندامةٍ (2 كُورِنْثُوس 7: 10). وثمَّة أيضاً حزنٌ دنيويٌّ يُنشئ ندامةً مميتةً. وإذا حكمنا بموجب السِّياق، فسنجد أنَّ يَعْقُوب يتَّخذ الموقف الأَوَّل. وهو يختم هذا المقطع بتكرير دعوته إلى التَّواضُع والخضوع لله. والمستقبل واعدٌ ومطمئنٌ للَّذين يسلكون هذه الطَّريق. فسيرفعهم الله مِن كآبتهم وغمِّهم إلى فرحٍ غامرٍ. وهذا الوعد عينه يتكرَّر ثلاث مرَّاتٍ في أماكن أخرى مِن العَهْد الجَدِيْد؛ وبالتَّالي يُمكننا أن نتَّخذه مبدأً راسخاً في سيرتنا المَسِيْحيَّة (متى 23: 12؛ لُوْقَا 14: 11؛ 1 بطرس 5: 6). قد تأتينا الرِّفعة علانيةً، ولكنَّ الأمر الحيويَّ هو أنَّ الله يرفعنا لنعلو كالنُّسور فوق الاضطراب الذي يُحيط بنا، وهكذا يُجدِّد قوَّتنا.
يُرسل "أوغسطين" إشارة إنذارٍ إلى كلِّ مَن يرفض هذا المبدأ، قائلاً: "مثلما ينبغي للشَّجرة أن تُعمِّق جذورها في الأرض كي تعلو باستمرارٍ، هكذا الإنسان الذي لا يُرسِّخ نفسه في التَّواضع سيجد أنَّ ارتفاعه سقوطٌ له".