Skip to content

Commentaries
Arabic
يعقوب
  
تحذيرٌ مِن الاتِّكال علَى الذَّات
(4: 13- 17)
4:13هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ نَذْهَبُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ.14أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ. لأَِنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ. إِنَّهَا بُخَارٌ يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ.15عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا إِنْ شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هَذَا أَوْ ذَاكَ.16وَأَمَّا الآنَ فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ. كُلُّ افْتِخَارٍ مِثْلُ هَذَا رَدِيءٌ.17فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ فَذَلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ


نجد في هذه الآيات تحذيراً مناسباً في وقته لملوك المال المعاصرين ذوي المطامع البعيدة المدى. والعبارة الرَّئيسيَّة هنا هي "نَرْبَحُ". فدافع الرِّبح هو قاعدةٌ أساسيَّةٌ للمشروع الرَّأسماليِّ، وبدا هذا في شكلٍ ضخمٍ في أذهان التُّجار اليهود (13). وقد كان يهود الشّتات10 الذين يذكرهم يَعْقُوب في خطابه مسافرين لا يعرفون الكلل، أخذَهم شغلهم إلى جميع أرجاء الإمبراطورية الرُّومانية وإلى ما وراء "فرتيا"11 Parthia وشبه جزيرة العرب.
كانت العادة أن "نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً" شائعةً في الشَّرق حتَّى عهدٍ قريبٍ. فكان التَّاجر ينقل بضاعته مِن منطقةٍ ما إلى مدينةٍ أخرى بعيدةٍ، ويبقى هناك حتَّى يتمَّ التَّصرف بالبضاعة، ويشتري أصنافاً أخرى رائجةً لسوقٍ بعيدةٍ أخرى. وكان يُكرِّر العمليَّة، ومِن ثمَّ يعود أخيراً بأرباحٍ ضخمةٍ. كان التَّاجر يتأنَّى وينتهز الفرص لعقد الصَّفقات الرَّابحة. ونُذكَّر هنا بالمُزارع الغنيِّ الذي خزن قمحه وأرزاقه، ووضع خططاً لسنواتٍ عديدةٍ قادمةٍ، مطمئنّاً إلى أنَّه لن يحتاج أبداً (لُوْقَا 12: 16- 21).
لكنْ هل ينبغي لنا ألاَّ نُعِدَّ خططاً طويلة الأمد أبداً إذا كان تخطيطنا مخطئاً؟ إنَّ الرَّب رغم ذلك كلِّه يُثْني على تخطيط البنَّائين الدَّقيق، والبارعين في الاستراتيجيَّة العسكريَّة الذين يستخدمون المخطَّطات والخرائط. إنَّ النُّقطة الأساسيَّة في هذه التَّوضيحات الإنجيليَّة هي الحاجة إلى تنفيذ ما بدأه المرء. وليست ثمَّة فكرة ربحٍ متزايدٍ على الدَّوام، أو عمليَّاتٍ مطوَّلةٍ (لُوْقَا 14: 28- 32). ومِن جهةٍ أُخرى، يهتمُّ يَعْقُوب بمسلَّمات الرِّجال النَّاجحين وثقتهم المفرطة، الذين يتصوَّرون أنَّ النَّجاح يخصُّهم بمقتضى كفاءتهم. وأَمْثَال هؤلاء الحكماء عالميّاً هم غالباً مؤمنون بإلهٍ واحدٍ (2: 19)، ولكنَّه خارج حساباتهم، بسبب "التَّشويش" الذي تتضمَّنه تولية الله أمر حياتهم ومعيشتهم.
لقد حذّرَنا يَسُوْع، في قولَين بارزَين مِن هذا الفشل الشَّائع: فحثَّنا على عدَم الاهتمام بالمستقبل، وأوضح أنَّ رِبْح العالم خسارةٌ كلِّيةٌ، إذا كانت تعني خسارة النَّفْس (متى 6: 34؛ 16: 26). يكشف "توماس همركن" Thomas a Kempis افتقار النَّاس إلى البصيرة، فيقول: "لأجل إيرادٍ قليلٍ نقوم بسفرةٍ طويلةٍ، ولأجل الحياة الأبديَّة قلَّما نجد مَن يَرفَع قدماً عن الأرض".
يشرع يَعْقُوب في تقديم أسبابٍ لتحذيره السَّابق مِن فرط الثِّقة. فحتَّى المستقبل القريب لا يُمكن التَّنبُّؤ به. ولا يعلم أحدٌ ما قد يأتي به الغد. وثانياً إنَّ الحياة في أحسن الأحوال قصيرةٌ، وهي أشبه بسياحةٍ، ولكنَّها سياحةٌ يَغفل الكثيرون عنها. وإذا كانت النُّقطة التي أثارها يَسُوْع عن قيمة النَّفس غير المحدودة صحيحةً، فلا بدَّ مِن تذكير الرِّجال والنِّساء على الدَّوام بأنَّ الحياة مثل بخارٍ أو دخانٍ يَظهَر حيْناً ثُمَّ يتوارى في جميع الأحوال والظُّروف (14). ونسمة الحياة نفسها هي رهنٌ بمشيئة الله (15).
لنحترس، ونحن نتحدَّث في هذا الاتِّجاه مِن الافتراض المتشائم بأنَّه لا يوجد أيُّ شيءٍ مفيدٍ في الحياة، التَّعلم، العناء، المثابرة، السَّلوى (الجامعة 1: 3، 13؛ 2: 11؛ 3: 9). يستنتج الوثنيُّون المتأمِّلون استنتاجاً مقبولاً ظاهراً مِن الافتراض أنَّ الحياة قصيرةٌ، فيقولون: "كُلْ واشرَبْ وافرح لأنَّنا سنموت غداً" (قارن إِشَعْيَاء 22: 13؛ 1 كُورِنْثُوس 15: 32). وهذا يُفضي بهم عمليّاً إلى مزيدٍ مِن الاكتئاب لأنَّ الموت يُلقي بظلِّه الكئيب على كلِّ مناسبة فرحٍ. فماذا ينبغي لنا أن نفعل إذاً في ضوء قِصَر الحياة؟ ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار مكان الله في خططنا، ونُقرِّر كيف نفتدي الوقت على أفضل نحوٍ، متذكِّرين أنَّ وقتنا ليس لنا إطلاقاً، بل هو عطيَّته لنا.
يُمكن حلُّ المعضلة عندما نأخذ بالنَّصيحة التي يُقدِّمها الرَّسول، فنقول ببساطةٍ "إِنْ شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هَذَا أَوْ ذَاكَ" (15)، ولا نقول هذا فحسْب، بل نُكيِّف برامجنا وأداءنا وفق هذا الاقتناع. ويُمكن أن نُحدِّث الآخَرين بتواضعٍ عن خططنا، مجريات حياتنا، زواجنا، وما حقَّقناه (16)، لأنَّ الافتخار مُستبعَدٌ في هذا المجال كما في غيره. والعبارة "إن شاء الله" التي يُردِّدها أهل الشَّرق هي مرادفٌ دقيقٌ للعبارة اللاَّتينية Deo volente وينطق الشَّرقيون بها عَرَضاً، وكأنَّها "فتش"12 يتمتَّع بقدرةً سحريَّةً على النَّجاح. ونحن لن نجعل منها "فتشاً" مردِّدين إيَّاها بدون نهايةٍ، بل نتذكَّر مشيئة الله وراء أفضل خططنا الموضوعة.
يقول يَعْقُوب: "وَأَمَّا الآنَ فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ" (16)، والمباهاة مِن هذا النَّوع وعلى هذا النَّحو مُنكرَةٌ. فرط الثِّقة سيّءٌ جدّاً، أمَّا التَّباهي به فهو حماقةٌ مطلقَةٌ وشرٌّ مُضاعَف. ثمَّة افتخارٌ، اعتزازٌ جديرٌ بالثَّناء والإطراء، ولكنَّ المَسِيْحيِّين للأسف يهملونه إلى حدٍّ كبيرٍ، وهو: الافتخار بالرَّب، بأمور الضَّعف، بصليب المَسِيْح (2 كُورِنْثُوس 10: 17؛ 11: 30؛ غَلاَطِيَة 6: 14).
هل ثمَّة حلقةٌ تربط الآية 17 بالمقطع السَّابق؟ يعترف بعض المفسِّرين بأنَّهم لا يستطيعون اكتشافها. ورغم ذلك نجد أنَّ لذلك المقطع علاقة بفعاليَّاتٍ متنوِّعةٍ موصوفةٍ (نَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ) وغير موصوفةٍ (نَفْعَلُ هَذَا أَوْ ذَاكَ). وهكذا يُلخِّصُ يَعْقُوب حُجَّته بالقول لنا أن نفعل الصَّواب بكلِّ قوَّتنا افتراضاً (جامعة 9: 10). فالآية 17 تُكمل إذاً قول بولس "كُلُّ مَا لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ فَهُوَ خَطِيَّةٌ" (رومية 14: 23). إنَّ الامتِحَان البولسيَّ هو بمثابة رادعٍ يُرجعنا إلى الوراء لنمتحن دوافعنا ونيَّاتنا. ويُقدِّم يَعْقُوب لنا حافزاً للعمل، اعمل ما كان ينبغي لك عمله. إذا بدا أيُّ إجراءٍ مريباً فاجتنبه. ومِن جهةٍ أخرى إذا عرفنا أنَّه صالحٌ، نبيلٌ، حقٌّ، فيجب ألاَّ يعوقنا أيُّ شيءٍ عن المضيِّ به قُدُماً بإيمانٍ ومحبَّةٍ.
وباحتفاظنا بموقفنا كمسيحيِّين، نقبل المسؤوليَّات بحرِّيةٍ، ليس لكسب الاحترام، بل لعمل مشيئة الله. يجد الذين يقبلون ما يُلقى على عاتقهم أنَّ دائرة المسؤوليَّة تتَّسع باطِّرادٍ مع النُّمو الرُّوحي: رمي خبزٍ على وجه المياه، المشي ميلاً ثانياً، تحمُّل أعباء الآخرين، وعموماً عمل أكثر ممَّا يطلبه النَّامُوْس أو المجتمع منَّا، ولكن ليس أكثر ممَّا يتوقَّعه الله (لُوْقَا 17: 10).