Skip to content

Commentaries
Arabic
يوحنا
  
2- الله لا يرتاح، بل يعمل بالتَّنسيق معَ ابنه
(يوحنَّا 5: 17- 20)
5:17فَأَجَابَهُمْ يَسُوع أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ.18فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَِنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ


كانت المعارضة ضدَّ يَسُوع قليلةً وعاطفيَّةً، قبل الشِّفاء الَّذي تمَّ في بيت حسدا، ولكن بعد شفاء الرَّجل المُقعَد تضاغف بغض أعداء المَسِيْح، وصمَّموا على قتله. فكانت المعجزة الَّتي حصلَت في بيت حسدا نقطة التَّحوُّل والانقلاب في العلاقة بين المَسِيْح واليهود. وصار يَسُوع بعدها مُضطهَداً، ومحسوباً الأوَّل على القائمة السَّوداء. فما هو سبب هذا التّحوُّل؟
لقد اصطدم موكب محبَّة يَسُوع بسلطان الشَّرِيْعَة (النَّاموس) القاسي. ففي ذلك العهد القدم كان الشَّعب كلُّه عائشاً وكأنَّه في سجنٍ، أو تحت ناموسيَّةٍ كثيفةٍ. فكان مَن يتعدَّى على وصيَّةٍ واحدةٍ مِن الشَّرِيْعَة (النَّاموس) يُحسب متعدِّياً على الشَّرِيْعَة (النَّاموس) كلِّها. وانطلاقاً مِن هذا المبدأ، تطوَّرَت أحكامٌ عديدةٌ تُرشد النَّاس إلى التَّدقيق في حفظ الشَّرِيْعَة (النَّاموس)، لإنشاء البِرِّ بواسطة الأَعْمَال الصَّالِحة. فتشدَّد الأتقياء بدقَّةٍ وارتعابٍ حتَّى لا يتجاوزوا أيَّ وصيَّةٍ بغية نَيل مرضاة الله. وأصبح حفظ الشَّرِيْعَة (النَّاموس) سبيلاً للأنانية وإهمال المَحَبَّة. ولمَّا كانت الأمَّة تعيش متعاهدةً مع الله، ومحسوبةً كوحدةٍ أمامه، حاول المتطرِّفون إجبار جميع الشَّعب على أن يلتزموا أحكامهم العديدة. فاعتُبر السَّبت عربون راحة الله في شعب العهد. وكما ارتاح الله في اليوم السَّابِع مِن كلّ أَعْمَال الخلق، هكذا كان ممنوعاً على شعب العهد القديم القيام بأيِّ نوعٍ مِن الأَعْمَال في ذلك اليوم المخصَّص للسُّجود، تحت طائلة الموت.
وهكذا كان السَّبت، في عرف اليهود، رمزاً للانسجام بينهم وبين الله، ودلالةً على حضوره معهم، وكأنَّما لم تكن ثمَّة خطايا مرتكبة مِن قبلهم تشوِّه هذا الانسجام.
في لقاءٍ تمَّ بين يَسُوع والفَرِّيْسِيِّيْنَ، أجابهم يَسُوع على احتجاجهم بخصوص نقض السبت بعبارته الحاسمة: "إنَّ الله يعمل". ونقرأ هذه الكلمة "يعمل" ومشتقَّاتها سبع مرَّاتٍ في بيان يَسُوع للفَرِّيْسِيِّيْنَ. فكان ردُّه على الناموسيَّة الجامدة إعلاناً عن عمل الله وحركة محبَّته. وكان هذا الفكر غريباً عن العقليَّة العِبْرَانِيّة، ومدهشاً لها. فكيف لم يسترح الله حتَّى الآن، منذ انتهائه مِن الخَلق، بل يعمل باستمرارٍ؟ إنَّ هذا التَّفكير مخالفٌ للاعتقاد اليهوديّ مائة بالمائة. لكن منذ دخلت الخطيئة العالَم، وأفسد الموتُ المخلُوْقَات، وانفصل الكون عن مصدره، لم يرتح الله قطّ، بل قام وعمل بكلّ قوَّته ليُخلِّص الضَّالين، ويُرجِع العصاة إلى شركته. فمحبَّة الله هي الدَّافعة في عمله، وتقديسنا هو هدفه، كي نحقِّق محبَّته في طهارةٍ.
كان شفاء المَسِيْح في يوم السَّبت، وخلاص المسكين، صورةً طبق الأصل لعمل الله الجوهري. فبشَّر يَسُوع بالنَّعمة، ونفَّذ المَحَبَّة، حتَّى وإن ظهرَ عملُه ضدَّ الشَّرِيْعَة (النَّاموس)، لأنَّ المَحَبَّة هي تكميل الشَّرِيْعَة (النّاموس). فكان الشِّفاء يومَ السَّبت هجوماً رئيسيّاً مِن يَسُوع على التَّقوى الكاذبة الخالية مِن المَحَبَّة في النَّامُوْسِيِّيْنَ.
عندئذٍ صرخ اليهود: "إنَّ يَسُوع ينقض السَّبت. النَّجدة! إنَّ أركان الشَّرِيْعَة (النَّاموس) تنهار. وعدوّ الشَّرِيْعَة (النَّاموس) هذا يُجدِّف، وينصِّب نفسه مشترعاً جديداً، وهو خطرٌ على أُمَّتنا".
لم يُلاحظ أحدهم محبَّة المَسِيْح للرَّجل البائس، ولا انتصار يَسُوع على الأرض. وبقَوا عمياناً في تعصُّبهم. فلا عجَبَ أن لا يُدرك بعض النَّاس اليوم يَسُوع المخلِّص مِن خلف غشاوة التَّعصُّب الَّتي تُعمي عيونهم، على الرَّغم مِن محبَّة يَسُوع لهم.
لم يغضب اليهود من يَسُوع فقط لنقضه السَّبت في سبيل إدخال شريعة محبَّته، بل لأنَّهم سمعوا من فمه ما اعتبروه تجديفاً، وهو قوله إنَّ الله أبوه، فصرخوا: "الله واحدٌ أحدٌ، وليس له أولادٌ؛ فكيف يُسمِّي يَسُوع اللهَ أباه؟"
ومِن موقفهم هذا ظهَر جهلهم. فهُم لم يكونوا عائشين في إلهام الرُّوْح القُدُس، ولا متعمِّقين في نصوص التَّوْرَاة الَّتي تتضمَّن الوعود العَظِيْمة بأبوَّة الله. ولعلَّهم لم يستطيعوا فهمَها بسبب عقائدهم الَّتي حجبَت الحقيقة عن أبصارهم. فالله سمَّى شعب العهد كلَّه "ابني" (تكوين 4: 22؛ هوشع 11: 1) وسمَّت الأُمَّة القُدُّوْس "أباها" (تثنية 32: 6؛ مزمور 103: 13؛ إِشَعْيَاء 23: 10؛ إِرْمِيَا 3: 4 و9 و31: 9) والله سمَّى أيضاً الملك المؤمن "ابنه"، وأراد أن يكون له أباً (2 صموئيل 7: 14). أمَّا أن يُسمِّي أحد أعضاء العهد القديم اللهَ أباه الشَّخصي، فهذا مِن ضروب المستحيل، لا بل يُعتبَر ضرباً مِن الجنون والغرور والمُغالاة بحسب الفكر اليهودي، على الرَّغم مِن أنَّ اليهود جميعاً يعرفون الوعد بأنَّ المَسِيْح مِن أصلٍ إلهيٍّ، وهو يأتي بالحياة الأَبَدِيّة. فكان بُغضهم ليَسُوع دليلاً على عدم إيمانهم بأنَّه هو المَسِيْح المُنتظَر.
ردَّ يَسُوع على اليهود المرتعبين مِن كلامه قائلاً لهم بوضوح إنَّه يعمل الأَعْمَال نفسها الَّتي يعملها أبوه بحكمةٍ ومحبَّةٍ. وأكَّد يَسُوع أنَّه قادرٌ أن يعمل جميع الأشياء، وأنَّه مساوٍ لله. ففاق إعلان يَسُوع هذا إعلانه السَّابق بأنَّه ابن الله، لأنَّ قوله إنَّه ابن الله يَحتمل التَّفسير بأنَّ الابن يخضع لأبيه مُطيعاً. أمَّا أن يقول إنَّه قادرٌ على كل شيء، ومعادلٌ لله، فهذا في نظر هؤلاء المتعصِّبين مِن أفظع التَّجاديف، لأنَّه علَّة الخطيئة الأصليَّة الَّتي سقط فيها أبوانا الأوَّلان، نتيجة إغواء الشَّيْطَان. لذلك كان ردُّ فعل اليهود على هذه الأفكار صارماً وقاسياً. فلا بدَّ أن يُقتَل كلّ مَن يرفع نفسه إلى مستوى الله. فأبغض اليهود يَسُوع واعتبروه مجدِّفاً مستحقّاً الموت.
نرى أنَّ يَسُوع تعمَّد الخوض في هذا البحث مع الفَرِّيْسِيِّيْنَ، لوضع حدٍّ بينه وبينهم. فشهد أمامهم جهراً بمصدره وسلطانه، ولكنَّهم كانوا أسرى عقيدتهم المعقَّدَة، فعميَت أنظارهم عن معرفة الله المتجسِّد أمامهم، المَسِيْح الَّذي انتظروه طويلاً، لأنَّ روح المَحَبَّة لم يكن في قلوبهم؛ لذلك كان قرارهم النِّهائي هو قَتل المَسِيْح.