Skip to content

Commentaries
Arabic
متى
  
3- مبادئ خدمة المسيح في الجليل
(4: 12-25 )

المسيح يختار كفرناحوم مسكناً له
(4: 12-17)
4:12وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ، انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ. (13) وَتَرَكَ النَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرِنَاحُومَ الَّتِي عِنْدَ الْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ، (14) لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: (15) أَرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ الْبَحْرِ، عَبْرُ الأُرْدُنِّ، جَلِيلُ الأُمَمِ: (16) الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلالِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ (17) مِنْ ذ لِكَ الّزَمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ: تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. (إشعياء8:23؛9:1، متى3:2، مرقس1:14-20؛ لوقا4:14و15، يو8:12)


بعد معمودية يسوع في نهر الأردن وانتصار النور على الظلمة بتجربة المسيح في البرية، اكتملت خدمة يوحنا المعمدان. لقد عرَّف العالم بالمسيح وقدَّم إليه الناس التائبين على يديه. بعدئذ أراد الله إكمال خادمه المعمدان بالآلام، فسمح للشيطان بتجربته، كما سلَّم أيوب من قبل، لكي يعظم انتصار الأمناء لله.
لم يبدأ المسيح كرازته بالملكوت في الجليل إلا بعد أن انتهت كرازة يوحنا في سجنه. لكن كانت للمسيح خدمات أخرى، من نوع آخر، قام بها أثناء خدمة يوحنا، ولم يذكرها متى. منها أنه حضر عرساً في قانا الجليل، وهناك حوَّل الماء خمراً (يو2: 1-11)، وانحدر إلى كفرناحوم (يو2: 12)، وحضر إلى أورشليم في عيد الفصح، وطهَّر الهيكل (يو2: 13 إلخ) وتحادث مع نيقوديموس في أورشليم (يو3: 1-21)، وعمَّد الذين قبلوه في اليهودية. بينما كان يوحنا يعمد في عين نون (3: 22 إلخ) كان يسوع تحادث مع السامرية (يو4: 1-42) وشفى ابن خادم الملك في قانا الجليل (يو4: 43-54).
إن المسيح لم يذهب إلى الجليل إلا بعد أن سمع بسجن يوحنا، لأنه كان يجب أن يعطي يوحنا وقتا ليعد طريق الرب قبل ظهور الرب نفسه. وبحكمة رتبت العناية أن يحتجب نور يوحنا قبل أن يبزغ نور المسيح لئلا تتبلبل عقول الشعب بين الإثنين فيقول الواحد " أنا ليوحنا" والآخر "أنا ليسوع". ذهب المسيح إلى الجليل حالما سمع بسجن يوحنا، ليس فقط اتقاء للخطر إذ كان يعلم أن عداوة الفريسيين في اليهودية له لا تقل عن عداوة هيرودس ليوحنا، بل أيضاً لسد الفراغ الذي حصل باحتجاب يوحنا، وللبناء على الأساس الصالح الذي وضعه يوحنا.
فالله لا يترك نفسه بلا شاهد ولا يترك كنيسته بلا مرشدين، وعندما يُنحِّي شخصية نافعة يستطيع أن يقيم أخرى لأن عنده مخازن الروح، وهو يفعل هذا عندما يكون هنالك عمل يجب إتمامه.
اتضح للمسيح أن أباه لم يقُدْه إلى منطقة اليهودية التي حول الهيكل، بل إلى الأرياف والجليل. ترك يسوع الناصرة، بلد صباه، ونزل إلى كفرناحوم مركز المواصلات، فسمَّى هذه المدينة مدينته، واتخذها مركزاً لخدماته وعجائبه. وأوضح البشير متى، بأهمية كبرى، أن كل خطوة خطاها المسيح كانت مرسومة من قبل في نبوات التوراة. فبرهن في الأصحاحات السابقة، أن بيت لحم، هي مكان ولادة يسوع، والناصرة هي مسكنه في صغره، وفقاً لما جاء في النبوات القديمة. وأدرك أيضاً في نبوة إشعياء (9: 1، 2 ) أن منطقة كفر ناحوم هي مركز أعمال يسوع حسب إرادة الله الأزلية.
إن المسيح هو نور العالم، الذي أشرقت أنوار خدماته في الجليل أولاً، لأطول مدة في خدمته. بما أن هذه المنطقة الجميلة بعيدة عن أورشليم وهيكلها، لم يتعمق سكانها بالتوراة وشريعة موسى كما كان الفقهاء في العاصمة، بل كانوا ريفيين خشنين. كان بعضهم يمارس التهريب، وقطع الطرق. ففي تلك المنطقة المظلمة سكن يسوع. وإذ كانت كلمة "زبولون" مشتقة من الاسم « زبال» فهكذا نزل المسيح إلى أسفل أنواع شعبه، ليشبع الجياع إلى البر ويرفعهم إلى المستوى الإلهي.
بدأ يسوع بشارته بنفس الكلمة التي قالها يوحنا المعمدان: «توبوا». لأن جوهر الإنجيل واحد مهما تغيرت الظروف. الأوامر واحدة والأسباب التي تعززها واحدة. لا يجرؤ "ملاك من السماء" أن يبشر بإنجيل آخر ( غلاطية 1: 8) بل بهذا لأنه "بشارة أبدية".
توج المسيح كرازة يوحنا بكرامة عظيمة عندما كرز استعمل نفس الرسالة التي كرز بها يوحنا قبله. بذلك أظهر يسوع أن يوحنا كان سفيره ورسوله. لأنه عندما أتى يسوع بالرسالة بنفسه كانت هي نفسها التي أرسلها بواسطة يوحنا. وهكذا أيد الرب كلمة رسوله. أتى الإبن بنفس المهمة التي من أجلها أتى العبيد لكي "يطلب أثماراً"، أثماراً تليق بالتوبة. كان ممكناً للمسيح – باعتباره في حضن أبيه – أن يكرز بالأفكار العالية عن الأمور الإلهية السماوية السّامية التي كانت تخلب عقول العلماء، لكنه حصر كرازته في هذا الموضوع القديم البسيط " توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات".
هكذا ثبَّت الله خدمة ساعيه الأمين، وبرهن أن الروح القدس يشاء قبل كل شيء أن نغير فكرنا، ونترك الخطايا، لأن الخطيئة هي سبب ضيقاتنا، كما أن أجرة الخطيئة هي الموت. فيسوع لا يحررنا من الضيقات أولاً، بل من سبب الضيقات وهي الخطيئة، ويطلب منا الاستعداد والعزم كي ننفصل تماماً عن آثامنا ونبغضها ونتركها بعون الله.
بما أن الخطيئة هي انفصالنا عن الخالق، فإن أمر يسوع بالتوبة يعني إرجاعنا من العزلة إلى بيت أبينا وملكوته. هذه الدعوة هي الأمر الإلهي الأول في شريعة المسيح. فالإنسان لا يرجع إلى الله من تلقاء نفسه بل يحتاج إلى دعوة وأمر وقرار. وهذه العودة إلى مملكة السماوات أصبحت شعار إنجيل متى. فلا يكتب البشير عن ملكوت الله، ولا عن مملكة المسيح أو الآب، بل يسميها غالباً ملكوت السماوات، لأن اليهود لم ينطقوا باسم الله إلا نادراً، كي لا يكسروا وصية عدم لفظ اسمه باطلاً.
إن مشيئة الله تتم في السماوات، وهي ليست فوق أو تحت، بل تجري في كل مكان. وفرح السماوات يحل في قلوبنا، إذا سكن روح الرب فينا. لقد ظن القدماء أن السماوات فوق رؤوسنا وجهنم تحت أقدامنا، أما نحن فنعلم أن المسيح معنا كل الأيام إلى إنقضاء الدهر، فنثبت في رحابه، رغم مشاكل العالم وضيقاته، كما أخبرنا يسوع: «ليكن لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق. ولكن ثقوا، أنا قد غلبت العالم» (يوحنا16: 33).
إن صيرورة " أرض زبولون وأرض نفتاليم "، "جليل الأمم"، دليل على ما وصل إليه الشعب من ذُلٍّ وهوان. "زبولون" معناه "ساكن" ( تكوين30: 20) وعند ساحل البحر مسكنه (تك49: 13). كان صورة لشعب الرب الذي كان يسكن وحده "وبين الشعوب لا يحسب"(عدد23: 9) لكنه اختلط بالشعوب وانغمس في نجاساتهم (مز106: 35؛ هو7: 8).
أما "نفتالي" فمعناه "مصارعتي" ( تك30: 8) وكان صورة لشعب الرب في تمتعه بالحرية بسبب اتكاله على الرب إلهه في مصارعاته (تك49: 21). أما الآن فقد ترك المصارعات وجلس، فاستبد به الأعداء.
إن كل نفس بعيدة عن المسيح هي في ظلمة، بل هي الظلمة بعينها، كتلك الظلمة التي كانت "على وجه الغمر". والأشر من ذلك أنهم كانوا "جالسين" في هذه الحالة. يدل الجلوس على الهيئة المستمرة، لأننا حينما جلسنا كان قصدنا البقاء والإستمرار. كذلك كان الشعب "في ظلمة"، يحتمل بقاؤهم فيها، يائسين من التخلص منها. ويدل الجلوس ايضاً على أنهم كانوا قانعين بهذه الحالة. فقد كانوا "في ظلمة" وأحبوا الظلمة، وفضلوها على النور.
كانت حالتهم محزنة. وما زالت هذه هي حالة الكثير من الأمم القوية والعظيمة، التي تحب أن نرثى لها ونصلي من أجلها. على أن كل من يجلس في الظلمة وسط نور الإنجيل تكون حالته أشد حزناً. إن من يجلس في الظلام لأنه في الليل يكون واثقاً من أن الشمس ستشرق قريباً، أما من يجلس في الظلام لأنه أعمى فلا يرجو أن تنفتح عيناه سريعاً. نحن لنا النور ولكن ماذا يفيدنا إن لم نكن نوراً في الرب؟
إن كلمة «ملكوت» تتطلب مَلِكاً يحمل في شخصه كل حكمة وسلطان ومجد، كما قال المسيح بعد موته وقيامته: «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض». بهذه الكلمة أعلن ذاته جلياً كملك لملكوت السماوات. وإننا نفرح بحقيقة أن الله مالك، ويملك بواسطة ابنه، وينشئ لنفسه شعباً مولوداً من روحه فهو يصدر مملكته من نفسه. هذا الملكوت هو ملك لملكنا ونحن خاصته.
لقد تم مجيء مملكة المسيح تدريجياً. جاء أولاً المُمَهِّد يوحنا المعمدان، وبعده الملك يسوع المنير لأتباعه والمطهّر شعبه على الصليب، ليستحقوا العَيْش في شركة مع الله. بعدئذ حلَّ روح يسوع على مؤمنيه، محققاً دخولنا إلى ملكوت الله. وأخيراً سيأتي يسوع في مجده لتعم مملكته على الأرض. فتاريخ ملكوت الله يعني تطوراً وحركة ونمواً نحو الغاية والهدف السامي. إنه قد ابتدأ، وهو الآن حاضر فينا، وسيأتي علانية. لهذه الأسباب نسمع كلمة يسوع: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات». فهل أنت داخل أو خارج رحابه؟ لا تنسَ أن المملكة لا تعني خلاصك الشخصي فقط، بل مجموعة المولودين ثانية في كل الأزمنة، الذين يعيشون في عائلة أبيهم السماوي.

الصَّلَاة
نعظّمك أيها الرب القُدُّوس، لأنك كررت كلمة التوبة وإعلان ملكوتك، لكيلا نعيش بلا مبالاة، بل ننهض ونترك خطايانا، بقوة اسمك، ونمارس مشيئتك الرحيمة، مترقبين مجيئك القريب. نطلب إليك أن تخلق فينا العزم والثبات للطهارة والقداسة، كي نكرم اسمك الملكي بسلوكنا. ارشد كل الذين يشتاقون للدخول إلى مملكة محبتك، لندعوهم ونجذبهم بصبر إلى محضرك.
السُّؤَال
لماذا كرر يسوع بشارة المعمدان: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات»؟