Skip to content

Commentaries
Arabic
متى
  
ج- الإنتصار على النيات السيئة
(6: 19- 7: 6)

من يكنـز مالاً يخدم الشيطان
(6: 19- 24)
6:19لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. (20) بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، (21) لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً. (22) سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً،(23) وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَماً فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ! (24) لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلازِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللّهَ وَالْمَالَ. (متى19:21، لو12:33-34؛16:13، كولوسي3:1-2، يع4:4)


يجمع بعض الأغنياء كنوزهم بالطمع، ويبنون بيوتاً ضخمة، ويلبسون ثياباً ثمينة، ويزدادون غِنى بأساليبهم الاقتصادية الملتوية. يستخدمون المال لتتكاثر ثروتهم أضعافاً، ويصبحون مع عشيرتهم أقوياء، يتسلطون على الآخرين بقدرة ممتلكاتهم. أما السارقون فلا ينامون أيضاً، إذ يحاولون بمكر وخداع اختلاس المال من الأغنياء ويخجلون من العمل الشريف، ويختبئون من نور النهار. فيخادعون أنفسهم كالأغنياء راجين السعادة والعظمة والشهرة من المال. لكنهم يموتون كبقية الناس بسرعة ولا ينعمون بخيراتهم إلى الأبد.
وكتعليل للسبب الذي من أجله ينبغي أن لا نعتبر أي شيء على الأرض كنزنا الدائم لأنه قابل للتلف والضياع، والفساد من الداخل. أن مايُكنز على الأرض يفسده السوس والصدأ. فإذا حُصر الكنز في الثياب النّاعمة الرقيقة تُعرض لتأثير العتة وتلف دون أن نشعر، بل ونحن نظن أنه محفوظ في أمان. وإن حصر في القمح أو صنف آخر من المأكولات كما كان كنز ذلك الغني الغبي الذي كان محصوراً في مخازنه (لو12: 16 و17) فإن الصدأ أو الآكلة تفسده وتأكله". "إذا كثرت الخيرات كثر الذين يأكلونها" (جا5: 11) أو تأكلها الفئران أو الحشرات الأخرى الآكلة. فالمن نفسه رعت فيه الديدان، عندما قاموا بادخاره.
وإن كان المقصود بالكنز أنه محصور في الذهب والفضة فإن الصدأ لا يأكله، بل يتعرض للسرقة من قبل اللصوص ويزداد تناقصاً بالإستعمال، ويزداد أيضاً سوءاً بالتخزين والإكتناز (يعقوب 5: 2و3).
إن ما يشجعنا أن نكنز لأنفسنا كنوزاً في السّماء، هو أنها هنالك آمنة سالمة، إنها لا تتلف من تلقاء ذاتها ولا يفسدها سوس ولا صدأ، ولا نحرم منها بأعمال العنف أو أعمال الخيانة، فهناك لا ينقب سارقون ولا يسرقون. إنها سعادة لا تؤثر عليها تغيرات الزمان أو صروف الحدثان، هي ميراث لا يفنى ولا يتدنّس ولا يضمحل.
وتعليلاً قوياً للسبب الذي من أجله يجب أن نحسن الإختيار، ودليلاً على أننا قد فعلنا كذلك فحيث يكون كنزك على الأرض أو في السماء هناك يكون قلبك أيضاً. فالواجب يحتم علينا إذاً أن نكون دقيقين وحكماء في اختيار كنزنا لأن طابع عقلنا، وبالتالي لون حياتنا، سوف يكون تبعاً لذلك أما جسدياً أو روحياً، أرضياً أو سماوياً. فالقلب يتبع الكنز، كما تتبع الإبرة حجر المغنطيس، أو كما تتبع زهرة عباد الشمس نور الشمس. حيث يكون الكنز هناك يكون التقدير والإعتبار، هنالك تكون المحبّة والعواطف وإلى هناك تتجه الرغبات والجهود، والغايات والمقاصد، وفي كل خطوة تتخذ يكون ذلك الكنز قبلة الأنظار. حيث يكون الكنز هناك تكون اهتماماتنا ومخاوفنا لئلا نفقده، لذلك يشتد قلقنا. هناك يكون رجاؤنا وثقتنا، وهناك تكون أفراحنا ولذاتنا، هناك تكون أفكارنا، وهناك يكون الفكر الداخلي، الفكر الأول، الفكر الحر، الفكر الثابت المركز، الفكر الدائم. فليت الرب يكون كنزك وأجرتك حتى تتمركز بكل نواياك وأفكارك فيه، فتحرر من الماديات والأرضيات، وتكسب الكنز السماوي.
ليس الفقراء أفضل من الأغنياء، لأنهم يحاولون عمل ما يعمله الأغنياء، كلاهما يبنيان المستقبل على أساس ممتلكات دنيوية، لا يدركون أن نفوسهم أبدية محتاجة إلى غذاء روحي. كل شيء زائل إلا الله، وغفران المسيح أضمن لحياتك من بيت مصنوع من أسمنت وحديد، تخربه القنابل وتزيله الزلازل. فإيمانك أهم من شهاداتك المدرسية، ومحبتك بالروح القدس أثمن من أرقام رصيدك في البنوك، وخدمتك للمحتاجين تمجد الله، وتقدماتك لا تضاعف كنزك في البنك السماوي، لأن الله حصتك، وهو أعظم كنز.
أصبح عصرنا مادياً أكثر من ذي قبل، ويجاري البشر تطور الاقتصاد والاكتشافات الحديثة، ويشتاقون إلى الرفاهية المدنية، وينسون الله القدوس وشريعته، فيبتعد عنهم الروح القدس ويمتلئون بروح هذا العالم النجس. إن كل مهتم بالأرباح الدنيوية تلبسه ارواح الظلمة. لقد خلقك الله على صورته، وانظر إليه فيتعاكس مجده في رونق عينك وتفيض من روحه الطاهر. أما إذا حوّلت نظرك عن ربك وهدفت إلى المال، تصبح عبداً لشهواتك ونجاساتك، فتتغير عينك إلى حزن وظلام. إن الشرور التي فيك لا تعني المال والمادة فقط، بل الروح العامل ضد الله أيضاً، والذي سماه المسيح "المامون" الظالم، الذي هو يتسلط على من لا يثبتون في الله. وفي الواقع إن كل من يغتني يجد امكانيات الأرض مفتوحة لارضاء شهواته. فمالك يحرضك لعمل شر فظيع وارتكاب الفحشاء. ينقاد الأغنياء إلى الفساد والفجور بسهولة. وأنه من نعمة الله أن لا نرى ما يرتكبه الناس باموالهم في ليلة واحدة من جرائم ونجاسات مقشعرة، وإلا فإننا نجن ونفقد صوابنا نتيجة هذه الأعمال. أما الله فهو صبور وقادر أن يحتمل البشر النجس.
ينصحك الرب لترجع إليه ويضمك ويحررك من صنمك المالي، لأنك لا تستطيع أن تحب الله والمال في نفس الوقت، فصلاتك تصبح باطلة إن اتكلت على تأمينك بالمال. إما أن تتكل على الله أو على غناك لأن واحداً منهما هو المبتغى والمفضل لديك. امتحن ذاتك واعرف كم من الوقت والمال تصرف لخدمة الله، وكم تصرف منه لنفسك ولسيارتك ولهوك؟ كلنا في التجربة إلى أن نصبح عبيداً للمال ونخدع أنفسنا أكثر مما نعرف ونعبد الصنم " المامون" بأيدي مرتجفة فرحاً عندما نتسلم مبلغاً كبيراً. إن الله يعينك على التحرر من عبودية النقود كي لا تتفرس فيها بل تتعمق في المسيح وخلاصه. إن القدوس هو الكنز الفريد لحياتك، فلا تستمر طالباً درجة عالية في المجتمع، بل اطلب درجة عالية في خدمة الرب وابذل من مالك للفقراء، وضَحِّ بنفسك في سبيل المحتاجين كما ضحى المسيح بنفسه لأجلك.
يحاول بعض المؤمنين أن يخدموا الله والمال معاً، ولا ينتبهون أن المسيح أكد لهم أن لا أحد يقدر أن يخدمهما معاً. فاطلب من رب المجد أن يساعدك لتحبه هو فيحفظك ويحفظ مالك.
هل استعديت لعبادة الله وحده أم أنك مازلت تعرج بين الجانبين؟ التجئ إلى المسيح الذي لا يكلل قلبا منشقاً.
إن العين هي سراج الجسد، والسراج يرمز إلى النور. فالعين إذن هي النور الذي يرى به الإنسان كل شيء. العين هي المرآة، نرى فيها كل مشاعر الإنسان وأفكاره وأحاسيسه، فإذا كان يحبنا، نرى في نظراته الحب. وإن كان يكرهنا، ترى الكراهية في عينيه. إذا كان في قلبه غضب أو غيظ أو حقد، يظهر كل ذلك في نظرات عينيه. إذا كانت مشاعره قسوة أو رغبة في العدوان أو في الإنتقام، تكشف عيناه ذلك. المكر يظهر في عينيه، والكبرياء والتعالي تظهر في عينيه. كذلك الحسد والغيرة، بل أيضاً الإشمئزار والضيق وباقي المشاعر... فما معنى إذن "إن كانت عينك بسيطة"؟
بسيطة أي كما خلقها الله، بغير إضافة المشاعر البشرية الخاطئة. لا أضيف حقد ولا مكر ولا شهوة ولا كبرياء... لأنها بهذه الإضافات لا تكون بسيطة. وهذا ما نعرفه في الكمياء: فمثلا النحاس مادة بسيطة، لكنه إذا اتحد بالأوكسجين وصار أوكسيد النحاس يصبح مادة مركبة وليست بسيطة. عينك إذن تكون بسيطة إذا لم تختلط بمشاعر شريرة.
لنعط مثلا آخر بأبوينا الأولين "آدم وحواء". كانت عيونهما بسيطة في بادئ الأمر. وكانت معرفة الخير والشر في وسط الجنة (تك3:3). لعلهما كانا يمران عليها كل يوم دون أن تسبب لهما أية عثرة. لكن لما أضيف إلى بساطة أعينهما إغراء الحيّة بأنهما "يصيران مثل الله عارفين الخير والشر" (تك3: 5)، لم تعد العين حينئذ بسيطة. هكذا "رأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر" (تك3: 6). تغيّر الحال تماماً، لأن العين فقدت بساطتها. وكما تغيرت نظرتهما للشجرة تغيرت نظرتهما لبعضهما البعض!
كانا عريانين، وهما لاَ يخجلان (تك2: 45) حينما كانت أعينهما بسيطة. فلما فقدت بساطتها بالأكل من الشجرة "علما أنهما عريانان" (تك3: 7) عرفا أن هذا ذكر وهذه أنثى فتغطيا بأوراق التين (تك3: 7). المعرفة التي اضيفت إلى العين أفقدتها بساطتها.
إذن إن كانت عينك بسيطة، لا تضاف إليها شهوة أو إغراء أو أفكار معينة. فبهذه البساطة يكون جسدك كله نيراً. أما إذا أضيف إلى عينك شيء آخر، كالغضب والإنتقام مثلا، تجد ملامحك تتغيّر، وضغط الدم عندك يزيد، ومشاعرك تترك أثرها على جسدك، وحينئذ يكون جسدك مظلماً.
يضع لنا المسيح قاعدة عامة، لعلها كانت من الأمثلة السائدة بين اليهود "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين" وبالأولى لا يقدر أن يعبد إلهين، لأن أوامرهما لا بد أن تصطدم معاً في وقت من الأوقات أو تناقض بعضها بعضاً. طالما كان السيدان سائرين معاً فإن الخادم يستطيع أن يتبعهما، لكن إذا افترقا تبع الخادم أحدهما. إنه لا يستطيع أن يحب ويلاحظ ويلازم الإثنين كما ينبغي، إذا لازم الواحد لا يمكنه أن يلازم الآخر، لا بد أن يبغض ويحتقر أحدهما نسبياً. هذه الحقيقة واضحة وجليّة في الأحوال العادية.
إن كلمة "المال" التي وردت في النص الأصلي باللغة السريانية تحمل معنى "ربح". لذلك فإن المقصود ب "المال" هنا كل ما نحسبه ربحا في هذا العالم. المال هو كل ما في العالم، شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة. يجعل البعض إلههم راحتهم ونومهم وألعابهم الرياضية وتسلياتهم. والبعض يجعلون إلههم كرامتهم وتقدمهم. فالفريسيون كان إلههم مدح الناس وثناءهم. وبالإختصار إن محبّة الذات، محبة خدمة مصالح النفس العالمية وشهواتها الجسدية، هي الإله الذي لا يمكن أن يعبد مع الله. لأنه إذا عبد المصالح العالمية فهي تتنافس مع الله وتتعارض معه.
لا يقول المسيح "يجب" أن لا تعبدوا الله والمال بل "لا تقدرون" أن تعبدوا الله والمال. لا تستطيع أن نحب كليهما أو نتمسك بكليهما، أو نخضع لكليهما بالملازمة والطاعة والثقة والإتكال لأنهما يتعارضان الواحد مع الآخر. فالله يقول "يا بني اعطني قلبك" والمال يقول "كلا، بل اعطني إياه". الله يقول "اكتفوا بما عندكم" والمال يقول "امسك على قدر طاقتك، المال المال، بالوسائل الشريفة أو غير الشريفة". الله يقول "لا تخدع أحداً ولا تكذب، كن أميناً وصادقاً في كل معاملاتك" والمال يقول "اخدع أباك إذا وجدت في ذلك ربحاً لك". الله يقول "كن محسناً كريماً" والمال يقول "احتفظ بما عندك لماذا تخرب نفسك". الله يقول "لا تهتموا بشيء" والمال يقول "اهتم بكل شيء". يقول الله "قدس يوم السبت" ويقول المال "انتفع بهذا اليوم كباقي الأيام".
هكذا نجد أن أوامر الله والمال لا يمكن أن تتفق حتى أننا "لا نقدر" أن نخدم كليهما. إذا يجب أن لا نعرج بين الله والبعل، بل اختاروا اليوم من تعبدون وتمسكوا باختياركم.

الصَّلَاة
أيها الآب الغني. نسجد لك لأجل صبرك علينا، نحن الماديين. اغفر لنا ميلنا ومحبتنا للمال، وحررنا من ثقتنا بممتلكاتنا، وعلّمنا أن نحبك ونثق بك وحدك لنقدم لك كل ما هو لنا، ونربحك أنت كنزنا الوحيد، وولينا في الدنيا والآخرة.
السُّؤَال
لماذا لا نستطيع خدمة الله والمال في نفس الوقت؟