Skip to content

Commentaries
Arabic
رؤيا يوحنا
  
9- المناحات على سقوط بابل
(رؤيا 18: 9- 19)
18:9وَسَيَبْكِي وَيَنُوحُ عَلَيْهَا مُلُوكُ الأَرْضِ, الَّذِينَ زَنَوْا وَتَنَعَّمُوا مَعَهَا, حِينَمَا يَنْظُرُونَ دُخَانَ حَرِيقِهَا,10وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ لأَجْلِ خَوْفِ عَذَابِهَا قَائِلِينَ, وَيْلٌ وَيْلٌ. الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ بَابِلُ. الْمَدِينَةُ الْقَوِيَّةُ. لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ جَاءَتْ دَيْنُونَتُكِ.11وَيَبْكِي تُجَّارُ الأَرْضِ وَيَنُوحُونَ عَلَيْهَا, لأَنَّ بَضَائِعَهُمْ لاَ يَشْتَرِيهَا أَحَدٌ فِي مَا بَعْدُ,12بَضَائِعَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَجَرِ الْكَرِيمِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْبَزِّ وَالأُرْجُوانِ وَالْحَرِيرِ وَالْقِرْمِزِ وَكُلَّ عُودٍ ثِينِيٍّ وَكُلَّ إِنَاءٍ مِنَ الْعَاجِ وَكُلَّ إِنَاءٍ مِنْ أَثْمَنِ الْخَشَبِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالْمَرْمَرِ,13وَقِرْفَةً وَبَخُوراً وَطِيباً وَلُبَاناً وَخَمْراً وَزَيْتاً وَسَمِيذاً وَحِنْطَةً وَبَهَائِمَ وَغَنَماً وَخَيْلاً, وَمَرْكَبَاتٍ, وَأَجْسَاداً, وَنُفُوسَ النَّاسِ.14وَذَهَبَ عَنْكِ جَنَى شَهْوَةِ نَفْسِكِ, وَذَهَبَ عَنْكِ كُلُّ مَا هُوَ مُشْحِمٌ وَبَهِيٌّ, وَلَنْ تَجِدِيهِ فِي مَا بَعْدُ.15تُجَّارُ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الَّذِينَ اسْتَغْنَوْا مِنْهَا سَيَقِفُونَ مِنْ بَعِيدٍ, مِنْ أَجْلِ خَوْفِ عَذَابِهَا, يَبْكُونَ وَيَنُوحُونَ,16وَيَقُولُونَ, وَيْلٌ وَيْلٌ. الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ الْمُتَسَرْبِلَةُ بِبَزٍّ وَأُرْجُوانٍ وَقِرْمِزٍ, وَالْمُتَحَلِّيَةُ بِذَهَبٍ وَحَجَرٍ كَرِيمٍ وَلُؤْلُؤٍ,17لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ خَرِبَ غِنىً مِثْلُ هَذَا. وَكُلُّ رُبَّانٍ, وَكُلُّ الْجَمَاعَةِ فِي السُّفُنِ, وَالْمَلاَّحُونَ وَجَمِيعُ عُمَّالِ الْبَحْرِ, وَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ,18وَصَرَخُوا إِذْ نَظَرُوا دُخَانَ حَرِيقِهَا قَائِلِينَ, أَيَّةُ مَدِينَةٍ مِثْلُ الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ.19وَأَلْقَوْا تُرَاباً عَلَى رُؤُوسِهِمْ, وَصَرَخُوا بَاكِينَ وَنَائِحِينَ قَائِلِينَ, وَيْلٌ وَيْلٌ. الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ, الَّتِي فِيهَا اسْتَغْنَى جَمِيعُ الَّذِينَ لَهُمْ سُفُنٌ فِي الْبَحْرِ مِنْ نَفَائِسِهَا, لأَنَّهَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ خَرِبَتْ.

يسبِّب سقوط الثَّقافات العالمية اللاَّمعة تشنُّجات عميقة في الأمم والأفراد معاً. وحين يحصل ذلك تتهشَّم نظرتهم إلى الحياة، ويُسحَب البساط مِن تحت أقدامهم، ويرون كيف تتحطَّم آمالهم ومعنى حياتهم، فيُتركون مع العدم ويشكُّون في دينونة الله عليهم. الملوك الممثَّلون برؤوس وقرون ضدّ المسيح السَّبعة الذين طالما زنوا مع بابل العظيمة قد انقلبوا عليها الآن. بضربةٍ واحدةٍ ماحقةٍ أحدثوا في المدينة العظيمة نوبة إمتاعٍ ذاتيٍّ مجرِّدين إيَّاها مِن نفوذها القسري ومقتسمين ثروتها بينهم. ولكنَّهم أدركوا فجأةً: ماذا فعلنا؟ لقد دمَّرنا أساس وجودنا نحن. لقد سلبنا أنفسنا مصدر وحينا، ومركز تنسيقنا العالمي النطاق، ونقطة بدء جميع تسوياتنا الفاسدة. يضطجع ميزان القوى المعزَّز باعتناء لعالمنا أمامنا ككومة مِن الخرائب. الماكرة والمخادعة التي أمسكت زمام كلِّ شيءٍ معاً قد بادت في الدُّخان (رؤيا 18: 9).
كانت صدمة الملوك العاطفيَّة ورثاؤهم ذاتهم عظيمين جدّاً حتَّى إنَّهم بكوا وانتحبوا بصوتٍ عالٍ. وفي انسجامٍ بدأوا ينوحون آخذين شكل مأتمٍ. لم يكن كربهم أساساً بسبب دمار بابل المفاجئ، بل بسبب خسارتهم المالية وزوالهم الوشيك. لقد أدركوا أنَّ ثراءهم انتهى، وأنَّ أعجوبتهم الاقتصاديَّة كانت حلماً عابراً، وأنَّ استثماراتهم قد تبدَّدت كالبخار. فهموا أنَّ تيجانهم وأوسمتهم أضحَت رموزاً عديمة الجدوى لأيَّامٍ ماضية. كانوا قد سمحوا لأنفسهم بأن تُخدَع وتُضلَّل مِن قِبَل العاهرة الذَّكيَّة وبريق المدينة العظيمة. ببكائهم على المدينة المحترقة كانوا في الواقع ينوحون على أنفسهم. في جهنَّم لن يكون ثمَّة إشفاقٌ أو ترحُّمٌ على الآخرين الذين يحترقون.
ولا الحكَّام أسرعوا لإرسال فرق الإطفائيَّة أو المساعدة إلى بابل لإنقاذ النَّاجين مِن الجحيم المستعر في المدينة العظيمة. لا بل وقفوا بعيداً إلى الوراء يُشاهدون بأمانٍ مِن بُعدٍ الخبراء الذين يوجِّهون سياسة العالم ومعهم ناطحات السَّحاب العالية يتهاوون ويتحطَّمون (رؤيا 18: 10). ربَّما كانت قنبلة نيوترونية أو هيدروجينية هي التي نسفت ولوَّثت مركز ضدّ المسيح الثَّقافي فلم يقدر أحدٌ أن يدخله بعدُ، أو ربَّما كانت كتلة غاز سام قد استقرَّت فوق المدينة المحترقة بسحب كثيفة مِن الدُّخان. مِن بعيدٍ كان الملوك يذرفون دموع التَّماسيح. لقد استحوذ عليهم الخوف حين رأوا كرب المدينة التي يفوق سكَّانها المليون نسمة.
تمتموا معاً بدهشةٍ على ما كانوا قد فعلوا: ويلٌ لكِ أيَّتها العاصمة القويَّة! ويلٌ لكِ يا مركز القوّة والذَّكاء! في ساعةٍ واحدةٍ فقط سُحقْتِ وأُبِدْتِ. وهذا ليس منطقياً ولا قابلاً للفهم. لا بدَّ أنَّ هذه دينونة الله. سقوطك في الهاوية هو بدء سكناكِ في جهنَّم.
صعق عشَّاق الزَّانية للفكرة الرَّهيبة أنَّهم قد يُصابون بعدوى روح الزَّانية
ومرضها، والإدراك أنَّهم هم أيضاً قد يواجهون دينونة الله. كانوا يرتابون في أنَّ القوّة البشريَّة كلَّها باطلة إذا قيست بالله وجبروته. شعر الشَّامخون والأقوياء بخسارتهم، ورأوا الفوضى تقترب، فناحوا على أنفسهم في المدينة المحتضرة.

ربَّما كانت الآيات التي تنقل نواح التُّجار على سقوط بابل تعكس اختبار يوحنَّا نفسه للحياة الاقتصاديَّة في حاضرة أسيا البروقنصلية أفسس. فعلاقتها بمركز التِّجارة العالمية "بابل" (روما)، إذا حصل أمرٌ ما مشابهٌ، ستتأثَّر. لقد تخيَّل ماذا يمكن أن يعنيه سقوط هذه المدينة العظيمة للتُّجَّار وباعة الجملة. فأدرج ثلاثين مادَّةً مختلفةً قد باتت لا قيمة لها نتيجة سقوط المدينة العظيمة. إفلاسٌ بعد آخَر. لقد أثَّرت الدَّينونة على بابل في الاقتصاد العالمي بأسره.
أدرج يوحنَّا أوَّلاً المجوهرات الثَّمينة للملوك والأمراء وزوجاتهم (رؤيا 18: 12): الذَّهب البرَّاق الذي لا يصدأ، والفضَّة الثَّمينة، والحجارة الكريمة بجميع ألوانها وظلالها، وكذلك اللآلئ النَّفيسة التي مِن أصداف البحر. هامٌّ: باستثناء الفضَّة يذكر يوحنَّا القيم الثَّمينة ثانيةً للتَّأكيد على بهاء أُوْرُشَلِيْم الجديدة (رؤيا 21: 11، 15، 19، 21). ويُشار إلى الله نفسه هناك باستخدام الكريستال الشَّفاف المتألِّق (الْيَشْبُ) والياقوت الأحمر الثَّمين (الْعَقِيقُ) (رؤيا 4: 3؛ 21: 20). ليست الحجارة الكريمة، الذَّهب واللآلئ، في ذاتها بغيضةً أو مثيرةً للاعتراض. ومنظرها لا يُعيق الإنسان عن السُّجود لله في قدرته المُبدِعة؛ ولكنَّها تافهةٌ وعديمة القيمة هنا لأنَّها قد أُسيء استعمالها مِن قِبَل الأثرياء المُبَجَّلين لإظهار مركزهم أو مكانتهم المرموقة فحسب.
في قائمة السّلع الخسيسة سمَّى الشَّيْخ الجَلِيْل ثانياً الموادَّ الثَّمينة في زمنه: الكتَّان، والأرجوان، والحرير، والقرمز (رؤيا 18: 12). الشِّعار السَّائد في كلِّ بلدٍ هو: "الثِّياب هي التي تصنع الرَّجل (أو المرأة)". يريد الإنسان أن يكون أجمل وأكثر جاذبيَّة ممَّا هو في الواقع. إنَّ قدِّيسي الله هم الذين سيَظْهَرون، في الحقيقة، أجمل ممَّا هم بطبيعتهم، فتجدهم في رؤى يوحنَّا متسربلين بقماشٍ بهيٍّ، لأنَّ البزَّ أو الكتَّان البهي هو رمز بِرِّهم الموهوب مِن الله (رؤيا 19: 8). ستُزيَّن عروس الحَمَل بهذا "الكتَّان الأبيض". وهو يمثِّل أيضاً لباس الجند السَّماوي (رؤيا 19: 14). المواد القرمزية المُدرجَة لا يبهت لونها ولا يضمحلُّ. لإنتاج غرام واحد فقط في المرَّة الواحدة مِن هذا اللَّون الزَّهري الخفيف لا بدَّ مِن أن تفقد 10000 حلزونة أرجوانية حياتها. ولذلك ارتفع سعر الأرجوان ارتفاعاً هائلاً. كان الحرير في ذلك الزَّمان يأتي مِن الصِّين ويُنقَل على ظهور الجمال آلاف الكيلومترات عبر الصَّحارى والجبال إلى الشَّرق الأوسط بواسطة "طريق الحرير". وكانت المواد القرمزية الحمراء، مِن جهةٍ أخرى، تُصبَغ في مكانٍ خاصٍّ بعصارة حشرةٍ. وكان لهذا اللون قوّة أعظم حتَّى مِن الأرجوان، إلاَّ أنَّ حمرته البرَّاقة كانت تبهت مع الزَّمان.
مِن بين السِّلع التي كانت تُصدَّر إلى بابل مِن بلدانٍ أجنبيَّةٍ، أدرج يوحنَّا كلَّ عودٍ ثينيٍّ (رؤيا 18: 12) الذي كان يُستعمَل في تطعيم الخشب وكسو جدران المنازل. وكانت أصناف الخشب الثَّمينة الأخرى، بما فيها خشب الأرز تُستورَد مِن لبنان. وكانت النُّقوش العاجيَّة الثَّمينة أيضاً تُعرَض للبيع. أمَّا المواطنون ذوو النُّفوذ والقادة، في سعيهم لإظهار مكانتهم كزعماء أهمِّ مدينةٍ في العالم، فكانوا ينافسون بعضهم بعضاً في الأثاث الأنيق وضروب الزِّينة المنزلية الفنِّية والمنحوتات.
كان الحديد والمرمر، دون شكٍّ، يخصَّان الموادَّ الأوَّلية لهذه المدينة العظيمة (رؤيا 18: 12). فكانت الفيلاَّت والأماكن والقلاع تُكسى بالمرمر الإيطالي (كارارا) في مشاريع البناء الحيويَّة. ولم تكن لتنقص الأعمدة الفخمة المصنوعة مِن الصَّوَّان الزَّهري المستورد مِن أسوان. كان المرمر والعقيق يُستعملان لتزيين المباني الرَّائعة. كان المعدن الخام يُصهَر ويُحوَّل بطريقةٍ فنِّيةٍ إلى حديدٍ. وقد ساعدت الأجواء السَّائدة في المدينة على إطلاق الثَّراء إلى جانب الأمن والاستقرار، وكأنَّها ستدوم أجيالاً لا نهاية لها. ولكن في ساعةٍ واحدةٍ فقط احترق كلُّ شيءٍ وهلك.
بالطَّريقة نفسها تماماً، في ساعةٍ واحدةٍ فقط، انهار برجا مركز التَّجارة
العالمي اللَّذان كان يناطحان السَّحاب في نيويورك، في جحيمٍ مِن النَّار، إشارة إنذار لجميع سكَّان مدن بابل التي لا حصر لها في يومنا هذا.
كان يوحنَّا أيضاً حسن الاطِّلاع على مواد التَّجميل (رؤيا 18: 13). يحبُّ الشَّرقيون غالباً العناصر العطريَّة المنتقاة كلاًّ بمفردها. وكان مِن ضمنها في ذلك الزَّمان القرفة التي كانت تُجنَى مِن لحاء شجر القرفة الصِّيني. لم يكن هذا التَّابل يُستعمل في المطبخ فقط، بل أيضاً لتطرية وتعطير الفُرش والملابس. كان البلسم (أومومو) المُستخرَج مِن نبتةٍ هنديَّةٍ يُستخدم لتعطير الشَّعر وعقصه. وكان ثمَّة طلبٌ كبيرٌ للبخور والمرِّ، اللَّذين كانا يتمتَّعان بشهرةٍ مميَّزةٍ، واللَّذين كانا يُستوردان مِن جنوب شبه جزيرة العرب حيث كان الإقبال عليهما شديداً لاستعمالهما في المجالين الدِّيني والدُّنيوي، إضافةً إلى الاستفادة منهما في الطِّب. ولم تَخْلُ بيوت ذوي المستوى الأفضل مِن المعيشة في بابل مِن العطور على اختلاف أشكالها. مِن المفارقات السَّاخرة أنَّه فيما بدأ التُّجار يُنشدون نشيد نواحهم لسقوط بابل، كانت سحبٌ خانقةٌ مِن الدُّخان تجتاز المدينة الأبديَّة (رؤيا 18: 9).
كان سيِّد المطبخ زيت الزَّيتون والخمور الممتازة المستخرجة مِن كروم المناطق شبه الاستوائيَّة (رؤيا 18: 13). إضافةً إلى القمح المجفَّف بالتَّنور والحنطة، كان السَّميذ والأرُزُّ الطَّويل يُستعملان أيضاً. وكانت تقام احتفالات للمآكل الشَّهية. كان كلُّ شيءٍ موجوداً في بابل: الشَّاي المستورد مِن الصِّين، والفلفل مِن جنوب الهند، واللَّبنة مِن خيام البدو... كلّ ما كان العالم يُقدِّمه. ولكن في ساعة دينونتها لم يقدر أحدٌ أن يجد حتَّى شربة ماءٍ عذبٍ.
ازدهرت التِّجارة، وكان العمل جيِّداً. كانت جميع أصناف اللُّحوم تقدَّم في المدينة التي جاوز سكَّانها المليون نسمة (رؤيا 18: 13). كان لحم الغنم يُفضَّل على لحم البقر. ولم يكن لحم الجمل والخنزير ناقصاً. كان الدِّيك الرُّومي والأسماك بجميع أنواعها متوفِّرةً للمشترين كي يختاروا منها ما يشاءون. ولكن عندما صُلِيَت بابل بالنَّار شويت حتَّى أجساد سكَّانها فتفحَّمت وصارت رماداً.
كانت خيول السِّباق موجودةً أيضاً في المدينة العظيمة النَّابضة بالحياة
(رؤيا 18: 13). وكانت المركبات المُزخرَفَة بالفضَّة والذَّهب الخالصين تتهادى على بلاط الشَّوارع الممهَّدة الملساء. كان ركوب عربة يجرُّها أكثر مِن حصانٍ واحدٍ يرمز إلى مكانة الرَّاكب. كما يُحدِّد طراز السَّيارة، في أيَّامنا الحاضرة، طبقة مالكها ومركزه الاجتماعي والمالي، كانت أصالة الخيل تشير إلى الطَّبقة الماليَّة لمالكها. ولكن لم يقدر أيٌّ مِن هذه المركبات المترفة السَّريعة والمريحة أن ينجو مِن سقوط بابل المفاجئ.
بغيظٍ مفعمٍ بالألم كتب الشَّيْخ الجَلِيْل أخيراً عن "الأجساد" التي كانت تُباع وتُشترى في المدينة العظيمة (رؤيا 18: 13). كانت هذه الكلمة المهينة تستعمل لوصف العبيد. ما كانوا يُباعون ككائنات بشريَّة، بل كفَعَلة أو للمتعة الجسديَّة. انتفض احترام الكرامة الإنسانيَّة في يوحنَّا حتَّى إنَّه كتب موضحاً: إنَّ هذه نفوس ناسٍ وليست مجرَّد عضلات وعظام.
في أيَّام وعصر يوحنَّا كان عدم وجود عبيد في حياة المدينة العظيمة مِن الأمور غير القابلة للتَّصوُّر. لم تكن الأسر الفقيرة قادرةً على شراء أكثر مِن عاملين أو ثلاثة عمَّال فقط. وكانت الطَّبقة المتوسِّطة تملك في كلِّ بيتٍ 10 إلى 20 عبداً. وكان النُّبلاء يشترون حتَّى 200 عبد لفيلاتهم وحدائقهم. وكان أصحاب الأملاك الواسعة أو مدراء المصانع يملكون آلاف العبيد الذين كانوا كغنائم مِن حروبٍ "مبرَّرة" يُحشَرون ويُضغَطون معاً ويُنقلون على بواخر شحن البضائع. لم تكن بابل قادرةً على الوقوف على قدميها وبلوغ ما بلغته لولا عمل العبيد. مِن آنٍ لآخر كانت أعدادهم تفوق أعداد السُّكان الأحرار. وفي الوقت نفسه كان ثمَّة خوفٌ خفيٌّ يُساور الطَّبقة الحاكمة مِن أن يطفح غضب هؤلاء المظلومين والمُستغَلِّين يوماً ما في ثورة انتقامٍ لا تُبقي ولا تذر.
حتَّى يومنا هذا، يُستعبَد ويُباع مئات الآلاف مِن النَّاس في السُّودان، ولا سيَّما النِّساء والأطفال. ونحن في بلداننا المتقدِّمة تكنولوجيّاً نتبجَّح بأنَّ الرِّق قد أُلغي رسميّاً. مقابل ذلك تملك كلُّ عائلةٍ المئات مِن "عبيد الطَّاقة" المعاصرين بشكل أدوات مطبخيَّة ومنزليَّة، وسيَّارات، وأجهزة تلفزيون وكمبيوتر. ومِن البديهي أنَّنا نستخدم تمديدات الماء والغاز. قليلون هم المستعدُّون للقيام بعمل قذرٍ أو شاقٍّ. الأناس الآليون في طريقهم للحلول محلَّ طواقم العمَّال المكلفة. ولكن إذا انقطعت الكهرباء والغاز والماء والبنزين فجأةً فسنُدرك حالاً وبارتباكٍ عظيمٍ كم بتنا معتمدين على عبيد الطَّاقة هؤلاء. بابل هي في كلِّ مكانٍ.
أخيراً أثنى التُّجار، في نواحهم على بابل، على الفاكهة الطَّازجة التي كانت تنضج في جميع أوقات السَّنة في المناطق شبه الاستوائيَّة (رؤيا 18: 14). البرتقال والموز، البطيخ والعنب، التِّين والتَّمر، الخوخ والمشمش، اللَّوز والفريز، كانت جميع أصناف الفاكهة الطَّازجة متوفِّرةً باستمرارٍ إلى أن اندلعت ألسنة النَّار فجأةً في المدينة.
مثلما فعل الملوك قبلهم، حدَّق التُّجار أيضاً مِن بعيدٍ إلى المدينة المحترقة
الفانية (رؤيا 18: 9- 10؛ 15- 17). جحيمٌ ناريٌّ باغت سكَّان بابل. لم يشأ أحدٌ أن يقترب مِن الذين كانوا يحترقون. لم يُبْدِ التُّجار الذين صاروا أثرياء بفضل هذه المدينة أيَّ شفقة على جثث الأغنياء المتفحِّمة، أو على العبيد الذين باتوا رماداً. لم يُبالِ التُّجار بآلام هؤلاء وأجسادهم المحروقة، لكنَّهم ناحوا على خسارة الكتَّان (الباتيستة) والأرجوان والقرمز والذَّهب والحجارة الكريمة واللآلئ. لقد راعهم دمار ثروة بابل برمَّتها في ساعةٍ واحدةٍ.
ناح التُّجار على خسارتهم علاقاتهم التِّجارية الشَّبيهة بوميض البرق أكثر مِن نواحهم على سقوط المدينة العظيمة. تحوَّل انتفاخهم وتعاظمهم بثروتهم إلى استسلامٍ للبكاء والعويل. شكّوا أيضاً في أن تكون نهايتهم المحتومة وشيكةً، وفي أنَّهم لن يتمكَّنوا مِن أخذ أيِّ شيءٍ مِن تكريم الناس لهم أو مِن غناهم الأرضي إلى الأبديَّة.
تنبّأ يسوع بكلِّ وضوحٍ للعالم كلِّه (لوقا 6: 24- 25) قائلاً:

هل لإنذار ابن الله هذا مغزى خاصٌّ لدول العالم اليوم؟ ما هي النَّتائج التي نستخرجها مِن هذا الإنذار؟

في تقرير النَّعي الثَّالث لبابل لا يتكلَّم الحكَّام وأصحاب الملايين حديثو النِّعمة، بل يتكلَّم ممثِّلوهم ومستخدَموهم وعمَّالهم. لعلَّ بابل رؤيا يوحنَّا تقع على شاطئ البحر حيث كانت أُسر أصحاب الملايين تقتني السُّفن وتضعها في الخدمة. وإذ رأى ربابنة السُّفن ومديرو قيادتها وضبَّاطها وملاَّحوها بابل وهي تحترق أدركوا فجأةً أنَّهم باتوا عاطلين عن العمل (رؤيا 18: 17- 19). ليس ثمَّة مَن يدفع لهم أجورهم المستحقَّة الدَّفع، وما مِن مالك سفينة جديد سيستأجرهم للعمل لديه.
كان حزن العمَّال شديداً. لقد فقدوا أساس وجودهم. فصرخوا وكعلامةٍ لحزنهم العميق ألقوا تراباً على رؤوسهم صارخين في شكواهم: "ويلٌ ويلٌ" ليس شفقةً على المدينة العظيمة، بل لأنَّ قدرتهم على كسب معيشتهم تحطَّمت بضربةٍ واحدةٍ. ربَّما لم يشكروا الله قطُّ لأجل عملهم، واتَّكلوا على بابل أكثر مِن اتِّكالهم عليه، فانقبضت قلوبهم الآن يأساً.
استغنت أعدادٌ لا تُحصى مِن كبارٍ وصغارٍ مِن المسخ الاقتصادي بابل.
والآن في ساعةٍ واحدةٍ تهاوت وبادت. كلُّ مَن يعيش بدون الله أو ضدّه، سواء كان سيِّداً أو عبداً، مُدانٌ للزَّمان والأبديَّة.

الصَّلَاة
أيّها الآب القدّوس ، نشكرك من صميم قلوبنا لأجل الخبز اليومي والماء للشرب والفواكة واللحوم وكل أنواع من أغذية نعمتك. إغفر لنا إن رأيت نفسك مضطرّ في سبيل عدلك أن تدمر غنى بلدان أرضَنا وفضل مجتمعنا وإن فقد المال قيمته. ساعدنا أن نرجع إليك، ونتعلم الشكر والحمد لأجل القوت والكسوى ولنكتفي بما تمنحنا يوميا.آمين.
السُّؤَال
ماذا تعتبرمن الأشياء المذكورة المدمرة في بابل ضرورية للحياة، وماذا غير ضرورية؟