Skip to content

Commentaries
Arabic
عبرانيين
  
هل تعرف رئيس الكهنة يسوع المسيح؟
(التَّمهيد للرسالة إلى العِبْرَانِيِّيْنَ)



تتميَّز الرِّسَالَة إلى العِبْرَانِيِّيْنَ بأنَّها السفر الذي يمنحنا بصائر عميقة إلى مجد المسيح وعمله الفريد كرئيس الكهنة الإلهي لأجل خلاص البشر. فكَاتِب هَذِهِ الرِّسَالَةِ يدلُّنا على الوسيط المجيد الوحيد القُدُّوْس بين الله والنَّاس الذي صالحنا بذبيحة نفسه مصالحةً أبديَّةً.

نكتسب هذه المعرفة السَّامية بِوَاسِطَةِ التَّأمُّل بأنظمة الذَّبائح فِيْ العَهْدِ القَدِيْمِ. ويوضح كاتب هذا السِّفر لنا معاني الكَهَنُوْت، وخيمة الاجتماع، والمذابح، والقرابين، والطُّقوس التي ترمز إلى المسيح الكاهن الأعظم الذي بموته أكمل هذه الدَّلائل، ويُكملها اليوم بكونه شفيعنا عند الله، وسيُعلنها عند مجيئه الثَّاني في المجد.

وإن كان بولس يُرينا في رسائله أنَّ يسوع حَفظ وأكمل النَّاموس وحرَّرَنا مِن ضعف الشَّرِيْعَة، فكَاتِب الرِّسَالَةِ إلى العِبْرَانِيِّيْنَ يُبرهن كيف أتمَّ المسيح أنظمة القرابين بموته؛ ولولا ذلك لوَجَبَ على الخاطئ أن يُكفِّر عن كلِّ إثمٍ ارتكبه بذبيحةٍ حيَوانيَّةٍ. فالمسيحُ هو نهاية الذَّبائح، لأنَّ دمه يُطهِّر الضَّمائرَ حقّاً مِن الأعمال الميتة، لنَخدم اللهَ الحيَّ.

تُعلِّمُنا الرِّسَالَة إلى العِبْرَانِيِّيْنَ كيف قرأ الرسل والمسيحيُّون، في الجيل الأوَّل، العهدَ القديمَ وفهموه روحيّاً. فرأَوا في التَّوْرَاة والأنبياء العهد الجديد مستتراً، بينما الإِنْجِيْل والرَّسائل هي كشفٌ لجوهر العهد القديم. فهذا الميثاق الأوَّل لم تستَبِنْ معانيه الحقيقيَّة إلاَّ بمجيء المسيح وظهور كنيسته. وإلى جانب هذه المفاهيم الفريدة، تعطينا الرِّسَالَة إلى العِبْرَانِيِّيْنَ أسئلةً صعبةً لا نستطيع حلَّها.



مَن هو مؤلِّف هذه الرِّسَالَة؟


لا يكشف لنا كاتب هذا التَّمجيد للمسيح اسمَه البتَّة، إلاَّ أنَّنا نستنتج مِن القرائن أنَّه صديقٌ لتيموثاوس لم يَعتبر نفسه جديراً بأن يُسمَّى أو يُذكَر. والأغلب أنَّه ليس مِن جيل الرُّسُل، كما يكتب في الأصحاح 2: 3؛ فهو لم يكن شاهد عيان ليسوع، بل آمَن بِوَاسِطَةِ شهادة الرسل؛ وقاده تعمُّقُه في التَّوْرَاة، بِوَحي الرُّوْح القُدُس، إلى سُمُوِّ إدراك ذبيحة المسيح.

ونُلاحظ مِن اختيار الكلمات وتركيب الجُمَل أنَّ الكَاتِب متضلِّعٌ مِن اليونانيَّة الفُصحى، وأنَّه كثيراً ما يستدلٌّ بترجمة التَّوْرَاة السَّبعينيَّة Septuagint بدقَّةٍ. ولعلَّ هذا الرَّجل عاش في محيطٍ ثقافيٍّ اعتاد أن يفسِّر التَّوْرَاة بالطَّريقة الإسكندرانيَّة. إنَّما الرُّوْح القُدُس قد طهَّر هذه الأساليب واستخدمها في تقديم المسيح الكاهن الإلهي. ويُمكننا أن نلمس أساليب الفيلسوف "فيلو" في تفكير كَاتِب هَذِهِ الرِّسَالَةِ، نقيض طرق البحث عند بولس الذي تثقَّف عند "غمالائيل" العليم بالشَّرِيْعَة. لكن ليست الأساليب الفلسفيَّة هي التي أوجدَت غنى هذه الرِّسَالَة، بل وحي الرُّوْح القُدُس الذي ملأ هذه الطُّرق لتجلِّي المسيح وخدمته. ولعلَّ الكَاتِب لم يرَ الهيكل الأخير في أورشليم، ولم يسمع به مِن شهود العيان. ورُبَّما كان مُقيماً في إيطاليا في زمن تأليفه سفرَه (13: 24). إنَّ هذه التَّقديرات لا تعدو كونها مجرَّد تخمينٍ ليس إلاَّ.
وقد تباحث آباء المسيحيَّة طويلاً محاولين معرفة كَاتِب هَذِهِ الرِّسَالَةِ. فظنَّ البعض أنَّه لوقا الطَّبيب، وآخرون اكليمندس الشَّيخ، أو برنابا الأبوي، أو أبلس الفيلسوف، أو حتَّى بولس نفسه. ولكن علينا أن نكتفي بقول "أوريجانس" اللاهوتي العظيم: "أمَّا كَاتِب هَذِهِ الرِّسَالَةِ، فلا يعرفه بالحقيقة إلاَّ الله وحده".

إنَّ عدم معرفة المؤلِّف، أو الظَّن أنَّه ليس أحد الرسل، لا يُقلِّل مِن شأن وقيمة هذا السَّفر الذي اعتبره بعض آباء المسيحيَّة أهمَّ رسالةٍ بَعد رُوْمِيَة. فقوَّته عظيمةٌ حتَّى إنَّه يُصيب القلوب في أعماقها حتَّى يومنا هذا، ويُطهِّر أذهاننا للسُّجود الصَّافي لابن الله الذي ينوب عنَّا الآن بصلواته وذبيحته عند الله كرئيس الكهنة، وسيَحمينا في الدَّيْنُوْنَة الأخيرة مِن لهيب غضب الله المُهلك برشِّ دمه الثَّمين.



إلى مَن كُتِب هذا السِّفر؟


إنَّ اسم هذا السِّفر "إلى العِبْرَانِيِّيْنَ" هو عنوانٌ مستجِدٌّ لم يكن في الأصل. والأغلب أنَّ هذه الرِّسَالَة لم تُكتَب إلى اليهود في فلسطين أو أورشليم، بل إلى كنيسةٍ مسيحيَّةٍ مؤلَّفةٍ بأكثريَّتها مِن مؤمنين مِن أصلٍ يهوديٍّ كانوا مِن أرومة كَهَنُوْتيَّة، أو على صِلةٍ بالكَهَنُوْت الموروث، مِمَّن تعوَّدوا ممارسات الهيكل وأجواءَه. فأوضح كَاتِب هَذِهِ الرِّسَالَةِ لهم، بِوَاسِطَةِ استخدام الطُّقوس، صورة المسيح، ورَسَمَه لأبصارهم مجيداً كرئيس الكهنة، كي يُدركوا أنَّ ألوهيَّة المسيح تظهر ليس في إتمام الشَّرِيْعَة فقط، بل بالأولى في إتمام أنظمة القرابين التي توضح عمق كفَّارة المسيح.

وعزَّى المؤلِّف، فِيْ الوَقْتِ نَفْسِهِ، كنيسته التي كانت في معاناتها الأولى من الضُّغوط والاضْطِهَادات، فأنعش إيمان أبنائها، ليتقدَّسوا حقّاً، ويتحرَّروا نهائيّاً مِن محبَّة المال، فلا يغرقوا في الإهمال، بل يستعدُّوا لصدمات أمواج الضِّيق المُقبلة عليهم فيحيوا.



متى كُتبَت هذه الرِّسَالَة، وأين؟


مثلما لا نعرف كَاتِب هَذِهِ الرِّسَالَةِ ولا الذين كُتبَت إليهم، كذلك لا نعرف شيئاً مؤكَّداً عن مكان وزمن كتابتها. وكلُّ ما وصلنا إليه هو أنَّها كُتبَت قبل سنة 97م. لأنَّ الشيخ "اكليمندس" استخدم جُملاً منها في رسائله الخاصَّة. ويَرى اللاهوتيون أنَّها كُتبَت قبل سنة 70 لأنَّ المؤلِّف لم يَذكر هدم هيكل أورشليم الشَّهير. وأغلب الظَّن أنَّها كُتبَت في العاصمة الرُّومانية نفسها، لأنَّها عُرفَت هناك أوَّلاً.



ما هو هدف الرِّسَالَة؟


جاء كثيرون باقتراحاتٍ وآراءٍ مختلفةٍ عن هدف هذه الرِّسَالَة الهامَّة. ولعلَّ سبب كتابتها هو أنَّ الكَاتِب رأى مؤمنين مِن أصلٍ يهوديٍّ على وشك النُّكوص على أعقابهم والارتداد إلى دين اليهود، ولا سيَّما فرقة الكهنة. فبذل كلَّ ما في وسعه للحيلولة دون ارتدادهم، وصوَّر يسوع أمامهم كرئيس الكهنة الحقيقي، لِيُثبِّت المؤمنين المتثاقلين ويُقوِّيهم في ملء المسيح، ويحثَّهم على التَّمسك بالإيمان القويم. ولعلَّ بعضهم ظنَّ أنَّ مِن الأسلم للمرء في الاضْطِهَاد آنَذَاكَ أن يكون يهوديّاً، فيتخلَّص مِن كلِّ ضغطٍ، لأنَّ الدِّين اليهوديَّ كان مُعتَرفاً به مِن الدَّولة الرُّومانية. فدعا الرَّاعي الأمين المؤمنين إلى الجهاد الموضوع أمامهم، لِيُعِدُّوا أنفسهم لاحتمال المصائب والموت شُهداء. فهذه الرِّسَالَة بمعانيها المُعزِّيَة والمشجِّعة تهَبُ للمؤمنين في أواخر الزَّمان قوَّةً وبصيرةً بِوَاسِطَةِ إدراك آلام المسيح ورؤيته كرئيس الكهنة الذي ضحَّى بنفسه لأجلنا.



ما هو مضمون الرِّسَالَة؟


تختلف هذه الرِّسَالَة في شكلها ومضمونها عن رسائل بولس وبطرس، مِن حيث أنَّها لا تُقدِّم لنا محادثةً بين كاتبها ومَن كُتبَت إليهم، كرسالة شخصيَّة مفعَمة بالعواطف والأشواق، بل هي أشبه بعظةٍ منطقيَّةٍ منظَّمةٍ، لها بدايةٌ ووسطٌ وهدفٌ واضحٌ.

فنجِد في الأَصْحَاحَات مِن 1 إلى 6 أساسَ العهد القديم، جلالَ شخص يسوع المسيح، ابن الله الذي يفوق جميع المَلاَئِكَة والأنبياء والكهنة والقوى في الدُّنيا والآخرة.

ونجد في الجزء الثاني (الأَصْحَاحَات مِن 7 إلى 10) التَّفسير لعمَل يسوع الكفَّاري. فيسوع وحده هو المستحقُّ أن يُصالحنا مع الله بذبيحة ذاته. ولا ضرورة لإعادة هذه الذَّبيحة مرَّةً أُخرى.

إنَّ حقيقة هذا الخلاص لا تسمح لنا أن نعيش حياة السَّأم والسَّطحيَّة، بل تحثُّنا على جهاد الإيمان الأمين بِوَاسِطَةِ تقديسنا في المحبَّة، كي لا نقف كسالى عند مجيء يسوع، غارقين في التَّفلسُف الباطِل، بل نفتح قلوبنا له، ليُكمل هو فينا الإيمان والمحبَّة والرَّجاء. يشمل هذا الجزء الأخير الأَصْحَاحَات مِن 11 إلى 13.

والعجيبُ أنَّ كلاَّ مِن هذه الأقسام الثَّلاثة مؤلَّفٌ مِن قِسمٍ تعليميٍّ عقائديٍّ كأساس لاعتقادنا، وآخَر يحثُّ على تطبيق الإيمان في حياةٍ ممتلئة بالثِّقة والطَّهارة. فهذه الرِّسَالَة لا تتضمَّن علماً نظريّاً جافّاً أو مُجرَّد معرفة، بل إيماناً عمليّاً إطاعةً لجذب الرُّوْح القُدُس، وأعمال محبَّة لتحقيق المعرفة بصبر في الحياة اليوميَّة. فإن درستَ معنا الرِّسَالَة إلى العِبْرَانِيِّيْنَ بروح الصَّلاَة، تتَّصل بالتَّيار السَّماوي، وتنتعش، وتكسب كنزاً ثميناً للدُّنيا والأبَد.


السُّؤَال
ما هو مضمون أجزاء رسالة العِبْرَانِيِّيْنَ الثَّلاثة؟
السُّؤَال
ماذا تَعلَم عن كاتبها وعن أحواله؟
السُّؤَال
ما هو هدف هذه الرِّسَالَة؟