Skip to content

Commentaries
Arabic
كولوسي
  
22- العلاقة بين العبيد وسادتهم وبين العمال وأرباب عملهم
(كُوْلُوْسِّيْ 3: 22-1:4)
22:3أَيُّهَا الْعَبِيدُ, أَطِيعُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ سَادَتَكُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ, لاَ بِخِدْمَةِ الْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي النَّاسَ, بَلْ بِبَسَاطَةِ الْقَلْبِ, خَائِفِينَ الرَّبَّ.23وَكُلُّ مَا فَعَلْتُمْ فَاعْمَلُوا مِنَ الْقَلْبِ, كَمَا لِلرَّبِّ لَيْسَ لِلنَّاسِ,24عَالِمِينَ أَنَّكُمْ مِنَ الرَّبِّ سَتَأْخُذُونَ جَزَاءَ الْمِيرَاثِ, لأَنَّكُمْ تَخْدِمُونَ الرَّبَّ الْمَسِيحَ.25وَأَمَّا الظَّالِمُ فَسَينَالُ مَا ظَلَمَ بِهِ, ولَيْسَ مُحَابَاةٌ.


وُضع في عهد الإمبراطورية الرومانية قانون خاصٌّ لملكيَّة العبيد، يعتبر أسرى الحرب غنائم وملكاً للرُّومان. فكان الأسرى يُباعون في سوق العبيد، وكان العبد يُعتَق حالما يدفع عنه أيُّ شخصٍ كان الفدية لمالكه. وكان يحقُّ للمالك أيضاً أن يعتق عبده ويعطيه صك حرِّيته. أما الشريعة الإسلامية فلا يزال قانون العبيد سارياً فيها بكل معنى الكلمة، بَيْدَ أَنَّه لا يطبَّق إلا في مناطق نائية عن المدن، مثل السودان الغربي. ومحمَّد نفسه لم يكن يعتق المخطوفين والأسرى من عشيرته حتى يدفعوا أموالهم كلها. كان يعرف جيداً مبلغ المال عند أهل المخطوفين، فلم يكن يطلق سراحهم إلا بعد دفع أموالهم كلِّها ( ابن هشام "سيرة النبي").
كانت الأسرة العادية، في زمن الرومان، تملك ما بين 6- 12 من العبيد أو الجواري الذين كانوا يمارسون الأعمال اليومية في البيت والإسطبل والحديقة. أمَّا الأسرة الغنيَّة فكانت تملك في بعض الأحيان 40 عبداً أو جارية يلبسونهم ويطعمونهم ويحضرون لهم المسكن. وكان العبد عادةً لا يعتبر إنساناً، بل مُلكاً يُشترى ويُباع. وكان معظمهم ينال ما يكفيه مِن القوت والكساء كي لا تقل قدرتهم وطاقتهم على القيام بالأعمال المفروضة عليهم. بينما كان بعضهم يتألم تحت ضغط أسياده القساة الظالمين المتوحشين، أو الاستغلاليين عديمي الرحمة. وكانت عقوبة العبد الفار هي الصَّلب. وقد اندلعت في روما ثورة العبيد بعد إخضاعهم تحت سيطرة الجيش الروماني الذي صلب منهم عشرات الألوف بغية كسر إرادة العبيد الجدد.
لم يدعُ بولس العبيد، في رسائله إلى الكنائس في الإمبراطورية الرومانية، إلى الثَّورة، ولم يطالب بحقوقهم الإنسانية، ولم يذكر الثورة على القيصر، أو يطلب تغيير الحضارة، بل اختار طريقة معاكسة تماماً، وأمر العبيد الذين أصبحوا أعضاء في الكنائس المحلية إلى خدمة أسيادهم بمحبة وأمانة. يساعدنا على فهم تاريخ الكنيسة إدراكنا أن في الحضارة اليونانية والرومانية أصبح كثير من العبيد أعضاء في الكنائس، ومؤمنين بالمسيح. لقد اشتاق هؤلاء إلى مجيئه الثاني في المجد ليتحرروا من يأسهم ويدخلوا الحياة الأبدية ويعيشوا في سلام معه.
اقترح بولس على الذين بدون حقوق أن يعتبروا أسيادهم المتكبرين المهينين كأنهم المسيح فيخدموهم بإخلاص ويعبدوهم كأنهم آلهة. من المستحيل للإنسان أن يطبِّق اقتراحاً كهذا مِن تلقاء نفسه. فهذا أمرٌ غير ممكن إلا بقوة الروح القدس وتعزيته ليلاً نهاراً. طلب الرسول من العبَيْدَ أَنَّ يخدموا مصاصي دمائهم بأمانةٍ ودون رياء كأن الله قادهم إلى هذا الامتحان المستعصي. اقترح عليهم أن يخدموا الظالمين في خوف الله القدير الذي سيطالب بحقوقهم في الوقت المناسب.
عاد بولس في هذا التعليم بشعاره المختص بتنفيذ العمل في عالمنا وقال:" وَكُلُّ مَا فَعَلْتُمْ فَاعْمَلُوا مِنَ الْقَلْبِ, كَمَا لِلرَّبِّ لَيْسَ لِلنَّاسِ" (كُوْلُوْسِّيْ 3: 17 و23). قد يلقى هذا المبدأ قبولاً عند الإنسان الحر السليم، بينما لا يلقى هذا القبول عند العبيد المجلودين والبنات المغتصَبات. ولكنَّ "الإيمان" يُحطِّم الفولاذ والصخور، ويستطيع أن يتمسك بقدرة الله. اعتبر بولس كل نوع من أنواع العمل عبادة لله، إن كان العامل يخص الذين اشتركوا في ملء اللاهوت مجاناً بالنعمة (كُوْلُوْسِّيْ 2: 9و10). فهم لم يكونوا مِن هذا العالم، بل في العالم كغرباء في رحاب يسيطر عليها الشيطان (يوحنا الأولى 5: 19). طلب الامتحان منهم أن يحققوا وداعة المسيح وتواضعه في أحوال مستحيلة وسيرة منتصرة لا يمكن أن تتم إلا في اتِّباع المسيح الذي تألم بنفسه من كبرياء الناس وظلمهم ونجاستهم، ولكنَّه خدمهم، وغفر لهم، وبرهن لهم محبته للجميع.
كان على العبيد المحفوظين في المسيح ألاَّ يحتملوا الظلم النازل عليهم بصبر وصمتٍ فحسب، بل أن يغلبوه بخدمات مثالية، ويدينوا أسيادهم بدون كلامٍ؛ فأعمالهم المباركة تعتبر خدمات مباشرة ليسوع الذي سيقول لهم في يوم الدين ما فعلتموه بأحد هؤلاء الأسياد القساة فبي فعلتم، ادخلوا إلى فرح أبيكم (متى 25: 27 و34و40).
يذكر بولس بهذا الخصوص أجرة مقدسة تُسلم إلى العبيد المخلصين. وهذه الأجرة لا تخلصهم من خطاياهم وكأنَّ أعمالهم المستقيمة هي التي خلَّصتهم، بل لأنَّ يسوع قد فداهم بدمه الثمين، والرُّوح القدس قد حلّ في قلوبهم، وملأهم بمحبة الله. فينبغي أن يبرهنوا كيانهم الجديد بأعمال صالحة. وسينالون لأجل خلاصهم أجرة سماوية. وفوق ذلك وعد الرسول العبيد الفقراء المجردين من أي ملك بأنَّ الرب قد أعدَّ لهم ميراثاً أبديّاً، لا ميراثاً دنيوياً زائلاً، بل ملكاً سماويّاً أبديّاً، وقد حصلوا على عربون هذا الميراث وهو الروح القدس نفسه الذي حلّ فيهم (أَفَسُس 1: 18- 19). وهذا الروح هو عربون المجد الآتي. وكتب بولس في مستهلِّ رسالته أنَّ السر العظيم يتحقق اليوم بين اليهود وغير اليهود وهو: المسيح فيكم رجاء المجد (كُوْلُوْسِّيْ 1: 27). الرب نفسه هو أجرهم الذي يسكن فيهم وهم فيه.
سواء كانت خدماتهم على البيدر، أو في القبو، أو الإسطبل، أو المطبخ، أو الكنيسة، أو السوق، يُحسَب كلُّ ما ينبغي أن يفعلوه خدمة ليسوع. قدم لهم بولس شهادة بدرجة ممتازة إذ قال:" أَنَّكُمْ تَخْدِمُونَ الرَّبَّ الْمَسِيحَ". سمى بولس نفسه أيضاً عبداً للمسيح (رومية 1: 1) وتألم بسلسلة طويلة من الآلام والضيقات (كُوْرِنْثُوْس الثانية 11: 23- 33). وربما قطع رأسه بسبب اتهامات ماكرة من اليهود. إنما افتخر في الضيقات، ليس بتكبر، بل لأن يسوع حمل الضيقات وتألم معه (رومية 5: 3- 5).
كتب بولس إلى العبيد المؤمنين في كُوْلُوْسِّيْ أنَّهم بعبادتهم العملية ليسوع لا يكرمونه فحسب، بل إنَّ خدمته هذه تأتي بدينونة على الأسياد الذين يمارسون الظلم ضدهم بلا شفقة. مَن من المالكين لا ينفتح لروح المسيح رغم ابتهالات العبيد لأجل أسيادهم؟ إنَّ مَن لا يريد أن يسمع شهادتهم الصامتة يدين نفسه. يظهر الكبار والعظماء أمام الله صغاراً وأثمَة. أمَّا الصغار التائبون فيصبحون، بإيمانهم بحَمَل اللهِ، مبررين وقديسين. نجد في الأبدية مقاييس أخرى غير تلك التي على الأرض، وسوف نتعجب حين نرى مَن هو القريب مِن الله.
مَن يقارن هذه المبادئ الروحية بإضرابات العمال في الدول المتقدِّمة والاستغلال البشع للعمال، يرَ الروح الغريب الذي لا يريد أن يخدم، بل يطالب بحقه بلا خجل. مَن يتأمَّل قسوة الأغنياء والأسياد وأصحاب الأسهم وافتخارهم يتعجب مِن أنَّ كبرياءهم لم يتغير منذ العصر الروماني. ولا نجد اشتراكية حقة إلا نادراً. لذلك يليق بنا ألاَّ نتحدَّث عن الظلم الاجتماعي، ما دام الكثيرون يُنفقون مليارات الدولارات على استجمامهم.
أمَّا الذي يخدم في مكان عمله مخلصاً وأميناً، بغض النظر عن رضا رؤسائه، فهذا يشهد بصمت لربه الأمين. ومَن يصلِّ لأجل رؤسائه وزملائه قد يحصد استهزاءًً وإهانات. أمَّا الذي يعيش في المسيح فيُصلِّي ويطلب أن تكون أعماله وأفكاره كلُّها في إرشاد الروح القدس لمدح نعمة ربه.