Skip to content

Commentaries
Arabic
يعقوب
  
المقدَّمَة



"كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ". لدينا هنا أكمل وأوضح بيانٍ لِلوَحي التَّام الذي في الكِتَاب المُقَدَّس، كما يُلقي هذا النَّصُّ الضَّوء على هدف الحقيقة المُعْلَنة للتَّعليم وَالتَّأْدِيب.وتُظْهِر لنا الدِّراسةُ العميقة في روح الصَّلاة لرسالة يَعْقُوب كيف تحقَّقتْ هذه الأهداف بامتيازٍ في هذه الرِّسَالَة. فرسالة يَعْقُوب، سواء سلَّمْتَ بأنَّها تعليميَّةٌ فعلاً أم لم تُسلِّم، هي حافلةٌ بالدُّروس العمليَّة، والنُّصْح، وكذلك التَّوبيخ عند اللُّزوم.

هل يمكننا أن نفهم هذه الرِّسَالَة دون معرفة ظروف كاتبها، أو حتَّى هويَّته الصَّحيحة؟ قد يكون الجواب بالإيجاب. فرسالة يَعْقُوب هي رسالةٌ عامَّةٌ موجَّهةٌ إلى جميع أصناف المَسِيْحيِّين، فقراء وأغنياء، متعلِّمين وأُمِّيِّين، أتقياء ومتظاهرين بالتَّقوى. ووصايا الرِّسَالَة واضحةٌ على نحوٍ منتظَم، وفي صميم الموضوع. وهي تحذو حذْوَ وصايا ربِّنا التي يَصعب تطبيقها، ولكنْ مِن السَّهْل فهمها. لذلك فهي تقضُّ مضاجعنا، وينطبق عليها قول (مارك توين): "إنَّ ما يُرهقني في الكِتَاب المُقَدَّس، ليس هو الأجزاء التي لا أفهمها، بل تلك التي أفهمها جيِّداً".



كاتِبُ الرِّسَالَة


ورد في الكِتَاب المُقَدَّس ذِكْر خمسة أشخاص يحملون اسم "يَعْقُوب". فأيُّهُم هو كاتب هذه الرِّسَالَة الفذَّة؟ يُخبرنا الكتاب عن يَعْقُوب أحد ابنَي زبدي، ويَعْقُوب بن حلفي، ويَعْقُوب بن مريم، ويَعْقُوب أبي يَهُوذَا، ومن ثمَّ يَعْقُوب أخي الرَّب الذي نقرأ عنه في (متى 13: 55). ويُعدِّد مواطنو النَّاصِرَة أسماء أبناء النَّجار: يَعْقُوب، ويوسي، وسمعان، ويَهُوذَا. أمَّا الرَّسول بولس فيدعو يَعْقُوب أخا الرَّب (غَلاَطِيَة 1: 19). ويُخبرنا سفر الأَعْمَال بأنَّه كان يشغل مركزاً بارزاً في جماعة المؤمنين الذين كانوا ينتظرون موعد الرُّوح. وبعد سنواتٍ نجده مترئِّساً مجمع الكنيسة الأَوَّل الذي عُقِد آنئذٍ في أورشليم (أَعْمَال 15: 13).



لم يستجِب إخوة الرَّب، في أثناء خدمته على الأرض، كثيراً لدعوته "إِخْوَتُهُ أَيْضاً لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ" (يُوحَنَّا 7: 5). وقد عمد يَسُوْع بعد قيامته إلى الظُّهور ليَعْقُوب، فخصَّ الرَّبُّ مَن كان يُفترَض أنَّه أخوه الطَّبيعي بهذا الظُّهور الخارق الذي لا يقلُّ في إثارته عن ظهوره لتوما. "لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً... لَكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ" (يُوحَنَّا 15: 15). خاطب يَسُوْع بهذه الكلمات تلاميذه، وخاطب بها كلَّ واحدٍ منَّا بواسطة تلميذه الحبيب، وقال أيضاً: "لأَِنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ فَلِهَذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً" (عِِبْرَانِيِّيْن 2: 11). ولكنَّ يَعْقُوب عكَس هذا التَّرتيب، وهو الذي كان مِن حقِّه الشَّرعي أن يدعو يَسُوْع أخاه، فتجرَّأ أن يدعو نفسه بعد إيمانه بيَسُوْع "عبد الرَّب يَسُوْع المَسِيْح". وهو في رسالته كلِّها يتحدَّث عن يَسُوْع بصفته "الرَّب". لقد تلطَّف المَسِيْح وعاملنا كأحبَّاء وإخوة، ولكنَّه يظلُّ ربَّنا وإلهنا المستحقّ كلَّ طاعةٍ وعبادةٍ. امتنع البشيرون الأربعة بتواضعٍ عن ذكر أسمائهم الشَّخصية في الأناجيل التي كتبوها؛ كما أنَّنا لا نجد يَعْقُوب في أيِّ مكانٍ من رسالته يستعمل ضمير المتكلِّم المفرد "أنا" إلاَّ إذا ورد على لسان مُعارِض مُفتَرَض.



إذاًً يُمكننا أن ننسب رسالة يَعْقُوب إلى أخي يَسُوْع هذا. وبالطَّبع ليس ثمَّة جدالٌ على العنوان. وأوَّل مَن نسب هذه الرِّسَالَة إلى يَعْقُوب أخي يَسُوْع هو "أُوريجينس" اللاهوتي المَسِيْحي الذي يُعَدُّ أحد آباء الكنيسة؛ ويُوافقه على ذلك كثيرون مِن علماء اللاهوت في عصرنا الحاضر، وتتضمن الأسماء العديد ممَّن ليسوا تماماً إنجيليِّين محافظين.

جاء ظهور المَسِيْح ليَعْقُوب بعد القيامة بمثابة اخْتِبَار مثير جدّاً. كيف كانت علاقتهما المبكرة وتواصلهما اليومي في النَّاصِرَة؟ لقد أدهش يَسُوْع ابن الثَّانِية عشرة العلماء في الهيكل بإجاباته وإدراكه للحقيقة، وإذْ بلغ مبلغ الرُّجولة أظهر المزيد مِن الحِكْمَة والرَّأفة. وفي النَّاصِرَة عبَّر عن تلك الحِكْمَة السَّماوية باهتمامه بخير عائلته. كان يَعْقُوب زمناً طويلاً مجرَّد مستمع لا فاعل للكلام الذي كان يسمعه. وفي اللحظة المناسبة التي أتت متأخِّرةً في حياة يَعْقُوب أحيا الرُّوح القُدُس لآلئ الحِكْمَة هذه في ذاكرته. وفي مكانٍ ما حوالي العام 60 بعد الميلاد أُوحي له أن يكتب هذه الرِّسَالَة النَّفيسة التي لا تُقدَّر بثمن لتقويمنا وتعليمنا في البِرِّ العمليِّ.



بعض الصِّفات المميّزة


إنَّ التَّوافق البارز في الفكرة واللغة المعلنَتَين في أقوال يَسُوْع وتلك التي في رسالة يَعْقُوب هو من بين الأمور التي ستكتشفها مِن خلال مقارنة رسالة يَعْقُوب بالأناجيل . لقد جمعنا الأدلَّة من جميع أجزاء هذه الرِّسَالَة، ويكفيك أن تختار آيةً واحدةً مِن كلٍّ مِن الأَصْحَاحات الخمسة، وتضعها على محاذاة الآية الإنجيليَّة.



























يَعْقُوب الإنجيل
1: 22 كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ لاَ سَامِعِينَ فَقَطْلُوْقَا 8: 21 أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا

2: 5 أَمَا اخْتَارَ اللهُ فُقَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي الإِيمَانِ

لُوْقَا 6: 20 طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ لأَِنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ وَوَرَثَةَ الْمَلَكُوتِ

3: 12 هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُونًا أَوْ كَرْمَةٌ

مَتَّى 7: 16 هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيْناً تِينًا

4: 10 اتَّضِعُوا قُدَّامَ الرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ

مَتَّى 23: 12 فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ

5: 1 هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ ابْكُوا مُوَلْوِلِينَ عَلَى

لُوْقَا 6: 24- 25 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ... لأَِنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ شَقَاوَتِكُمُ الْقَادِمَةِ


يمكن وصف رسالة يَعْقُوب مِن حيث التَّركيب بعظةٍ في قالبٍ أفضل. ويرى أحد المفسِّرين في القرن الثَّامن عشر أنَّ هذه الرِّسَالَة وردت من يد خطيبٍ مفوَّهٍ يكتب للمرَّة الأَوَّلى. فهي غنيَّةٌ بالحكم المعبِّرة بطريقةٍ بارعةٍ، وعبارات الرِّثاء المقتضَبَة، والاستعارات. ويستخدم يَعْقُوب صيغة الأمر على نحوٍ فعَّالٍ؛ ففي الآيات المائة والثَّمان من رسالته استخدم الأمر ستِّين مرَّةً. ونجد مثالاً لهذا التَّواتر في الأَصْحَاح 4: 7، 8، 9: "قاوِموا... اقتربوا... نَقُّوا... اكتئبوا... نوحوا... ليتحوَّل ضحككم إلى نَوْحٍ..." وهذا التَّجاوُر في أفعال الأمر هذه يؤلِّف دعوةً إنجيليَّةً فعَّالةً؛ فالمقطع كلُّه هو عبارةٌ عن إنجيلٍ محضٍ مثله مثل ما نجده في الموعظة على الجبل أو في كتابات بولس.

كُتبَت رسالة يَعْقُوب بلغة يونانيَّةٍ سلسة العبارة أنيقة الأسلوب. ولإثبات ذلك نحتاج إلى شرح بعض المفردات التّقنيَّة مثل hapax legomena و paronomasia و anadiplosis ومن ثمَّ نختار أمثلةً لها. إنَّ الرَّأي الذي ينفي إمكانيَّة كتابة هذه الرِّسَالَة مِن قِبَل حِرفيٍّ جليليٍّ قد فقدَ الكثير مِن حجَّته؛ وشارون دليلٌ حيٌّ على الحقيقة أنَّ اليهودي يمكنه استخدام اللُّغة المشتركة بين متحدِّثين بلغاتٍ أُخرى مختلفةٍ، وأن يفعل ذلك بدقَّةٍ وطلاقةٍ دون الحاجة إلى تعلُّم ذلك في مدرسةٍ رسميَّةٍ.

بما أنَّني قضيت مرحلة صباي في فلسطين، أستطيع أن أجزم بصحَّة القول إنَّ رسالة يَعْقُوب تتنفَّس هواءً فلسطينيّاً. تُذكِّرنا اللُّغة المجازيَّة بأحاديث الرَّب وأَمْثَاله. لاحظ: الرِّيح والأمواج، البحر والشَّمس، اللِّجام والزِّمام، الفرس والدَّفة، الينبوع وشجرة التِّين. وهذه كلُّها تتضمَّن أمثلةًً أساسيَّةً. وما يمكننا أن نخلص إليه بالتَّأكيد مِن خلال دراسة هذا المجاز هو حبٌّ للطَّبيعة، وشغفٌ إنسانيٌّ عطوفٌ، واستعدادٌ لأخذ العبَر مِن الطَّبيعة.

بقي يَعْقُوب في فلسطين حيث صار مبشِّراً لشعبه، فتبعته غالبيَّةٌ كبرى مِن المَسِيْحيِّين الذين تقتضي مهمَّتهم البقاء في الوطن والشَّهادة لأبناء وطنهم. ويُخبرنا التَّقليد أنَّه عُيِّن أسقفاً في الكنيسة الأم بأورشليم. وكان يقضي ساعاتٍ في الصَّلاة لأجل الآخَرين. وأخيراً مات شهيداً على أيدي أبناء جلدته اليهود. ما أجمل الملاحظة الواردة في (أَعْمَال 21: 17- 20) أنَّ بولس أخبر يَعْقُوب والشيوخ بالعظائم التي صنعها الله بين الأمم! وعندئذٍ يؤكِّد يَعْقُوب لأخيه الرسول أنَّ آلاف اليهود قد آمنوا بالرب. وهكذا يتمجَّد المَسِيْح داخل الوطن وخارجه.



الإيمَان والأَعْمَال


إنَّ التَّضاد الظَّاهر للإيمان والأَعْمَال هو، بالنِّسبة إلى بعض النَّاس، النُّقطة البارزة في رسالة يَعْقُوب. وهذا أمرٌ مؤسفٌ لأنَّه قد تستحوذ على تفكيرنا نقطةٌ مثيرةٌ للجدل، فنفقد على موازاة ذلك أموراً حيويَّةً تظهر على نحوٍ بارزٍ في هذه الرِّسَالَة الغنيَّة. ومع ذلك لا بدَّ مِن معالجة القضيَّة أوَّلاً ببعض الملاحظات المؤقَّتة. وفي النِّهاية قد تساعدنا المعالجة الأطوَل والأوسع على حلِّ التَّضارب في وجهات النَّظر.

إنَّنا ندين بالكثير لذاك المُصْلِح الشُّجاع "مارتن لوثر". فاكتشافه ثانيةً لعقيدة "التَّبْرِيْر بالإيمان" كان النَّظير الرُّوحي لاكتشاف العالم الجَدِيْد. فهذان الحدثان كلاهما الأَوَّل في المجال اللاهوتي، والآخَر في المجال الجغرافي قد غيَّرا مجرى التَّاريخ. لكنَّ لوثر أعرب عن أمر أو أمرين متطرِّفين متَّصلَين بقانونية الكِتَاب المُقَدَّس. فعبَّر مثَلاً عن كرهه لسفر الرؤيا على أساس أن الرؤيا يجب أن تكشف وتُعلن، بينما هذا السفر لا يفعل شيئاً من هذا القبيل. لكنَّ سفر الرؤيا "الذي هو فوق الأسفار الأخرى كلّها قد جعل الناس يحسُّون أن السماء حقيقية". وذهب لوثر أبعد من ذلك، فبخس رسالة يَعْقُوب قيمتها بوصفها "رسالة مِن قش". يعرف الإنجيليون الطيبون جميعاً باليوم السَّعيد الذي أشرق فيه نور الإنجيل على قلبه وهو يتصارع مع الآيات الوسطى في رومية 1: "أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا".وفي محاولة منه لتفادي أي التباس أضاف العبارة "في ذاته" إلى الإيمان، أي "بالإيمان في ذاته".

بَيْدَ أَنَّ لوثر سرعان ما لاحظ أنَّ رسالة يَعْقُوب، في ما يبدو، مخالفة للحقيقة كما رآها: "هَكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَال مَيِّتٌ فِي ذَاتِه"ِ (2: 17). وهنا يستعمل يَعْقُوب العبارة نفسها التي أضافها لوثر إلى نصِّه، وإنَّما بمعنى معاكس.

طلب منِّي بعض المبشِّرين في لبنان منذ سنواتٍ أن أتكلَّم عن "غَلاَطِيَة" و"يَعْقُوب" بغية تقريب وجهات النَّظر المتباعدة للمسيحيِّين المحلِّيين "النَّامُوْسيين" والأجانب "المعارضين للناموسية". كان للفريقين صفات ممتازةٌ، وكان كلاهما يسعى إلى تمجيد الله، الأَوَّل بالثَّبات والآخَر بالحرِّية. فلنحاول بمساعدة عالم بارز أن نحدد الموقفَين: "النَّامُوْسية هي الميل إلى الاتكال على العمل البشري بوصفه مستحقّاً المكافأة والتَّقدير، بدلاً من الاتكال على رحمة الله وحدها". أمَّا "اللاناموسيَّة فهي الافتراض أنَّ رحمة الله تتغاضى عن الحياة الفاسقة أو عدم الرَّغبة في فعل الخير". كان الافتراض الخاطئ هو أنَّه كان ثمَّة عنصرٌ ناموسيٌّ في تعليم يَعْقُوب. وكان هذا ردَّة فعل لمعارضة النَّامُوْس (شَرِيْعَة مُوْسَى) عند الذين أساءوا الحكم على تعليم بولس عن الإيمان والأَعْمَال.

لكنْ هل كان يَعْقُوب ناموسيّاً؟ هل مِن النَّامُوْسيَّة أن نُصلِّي بحرارةٍ، وهذا ما كان يَعْقُوب يوصي به؟ هل من النَّامُوْسية أن نزور الأرامل واليتامى ونتجنَّب الدَّنس العالمي، ونعامل الفقير باحترام ونصون لساننا عن إدانة إخوتنا بقسوةٍ؟ ، إنَّ هذه الأَعْمَال خصوصاً، مهما كان المقصود بالعبارة "أَعْمَال" في رسالة يَعْقُوب، هي أَعْمَال حميدةٌ، وبدونها لا يمكن أن يكون ثمَّة برٌّ وصلاحٌ في السِّيرة، ولا نكون أفضل مِن الوثنيِّين. يقول "كلفن" إنَّه ينبغي ألاَّ نُصاب بالخيبة إذا بدا يَعْقُوب راغباً عن الكرازة بتعليمنا المفضَّل "فيجب ألاَّ نتوقَّع من كلِّ واحدٍ أن يرسو في المرسى نفسه. وهذا التَّنوُّع لا يجعلنا نُثني على رسولٍ و نلوم الآخَر".

وأنا بدوري أُصبتُ بالخيبة إذ لم أجد أيَّ ذِكرٍ للروح القدس في رسالة يَعْقُوب. ولكنَّ ارتياحي كان عظيماً حين اكتشفتُ أنَّ ثمار الرُّوح التِّسع كلَّها بارزةٌ وجليَّةٌ في هذه الرِّسَالَة. سبعٌ منها مُدرجَةٌ على نحوٍ بيِّنٍ، وواحدةٌ مرادفةٌ، والتَّاسعة استعارةٌ.

يدين بولس بصراحةٍ النَّامُوْسيين في رسالته إلى أهل غَلاَطِيَة. كيف يتعامل مع اللاناموسيين؟ إنَّه يحضُّهم في رومية 6 داعياً إيَّانا بواسطة معاصريه إلى إعلاء مُثُلنا المَسِيْحيَّة: "أَنَبْقَى فِي الْخَطِيَّةِ لِكَيْ تَكْثُرَ النِّعْمَةُ. حَاشَا". ماذا لو تَرَكَنا الحَضُّ باردِين؟ ثمة اللاهوتيون الذين يُصرُّون على أنَّ المَسِيْحيين يستطيعون أن يبقَوا لوطيِّين، أو أن ينغمسوا في الجنس خارج رباط الزواج. ومما يؤسَف له أنَّ ثمَّة أيضاً من يتظاهرون بالمَسِيْحية وهم حُسُد ومُخادعون ومتكبِّرون ومتبجِّحون وغير مطيعين لوالديهم. ولا يتوانى بولس عن وضع أَمْثَال هؤلاء الأثَمَة المحترَمين جنباً إلى جنبٍ مع المنحرفين في (رومية 1: 26- 32).

في حالة متطرِّفة يحثُّ بولس كنيسةَ كُورِنْثُوس على "أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هَذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ" (1 كُورِنْثُوس 5: 1- 5). كيف يمكن تطبيق حِرم مِن هذا النَّوع في يومنا هذا؟ فنحن لا نحرق بَعدُ الهراطقة، أو نَسِمُ الزَّواني. والأَصْحَاح نفسه يحذِّرنا مِن معاشرة أخٍ طمَّاعٍ أو شتَّامٍ أو سكِّيرٍ (1 كُورِنْثُوس 5: 11). أمَّا يَعْقُوب فعنده حلٌّ أبسط: الإيمان بدون أَعْمَال ميتٌ. ثمَّة إيمانٌ حيٌّ وإيمانٌ جهيضٌ. فهل يستطيع مثل هذا الإيمان العقيم أن يُبرِّر؟ كلاَّ فلا فائدة تُرجى منه.

في (1 كُورِنْثُوس 16) ينطق بولس بالحرم على الذين لا يُحبُّون يَسُوْع، ويفعل الأمر نفسه في (غَلاَطِيَة 1) بالنِّسبة إلى الذين، في سبيل النَّامُوْسية، يُحرِّفون الإنجيل. أمَّا يَعْقُوب فيتَّخذ أيضاً موقفاً متصلِّباً تجاه اللاناموسيين، مستفسراً عن قيمة إيمانهم وصحَّته.



مَضمُون الرِّسَالَة


بدَت رسالة يَعْقُوب للبعض كرسالة مكوَّنة مِن القش، بينما يرى آخرون أنَّها ذخرٌ نفيسٌ يفوق ثمنه اللآلئ. تُظهر الرِّسَالَة تحليلاً دقيقاً مُحْكَماً، وتنتقل بسرعةٍ مِن فكرةٍ إلى أخرى، مِن الواجب إلى الدَّعوة بمساعدة المجاز والأمثلة الموضحة. نتحدَّث في لغة الموسيقى عن اللَّحن الذي يُمثِّل الفكرة السَّائدة motif ، واللَّحن الذي يُعاد عزفه، والتَّوسُّع في فكرة اللحن Durchfuhrung ، والإعادة المختصَرة للنِّقاط الأساسية. ويمكن تلخيص رسالة يَعْقُوب على نحوٍ ملائمٍ بعباراتٍ مقتضبَةٍ كما يلي:




























































الإيمان والحِكْمَة

1: 1- 8

الفقر والغنى

1: 9- 11

الامتِحَان والاخْتِبَار

1: 12- 18

الاستماع والعمَل

1: 19- 27

التَّحذير مِن الظُّلم

2: 1- 13

الإيمان والأَعْمَال

2: 14- 26

إساءة استعمال اللِّسَان

3: 1- 12

الحِكْمَة التي مِن فوق

3: 13- 18

الحياة الدُّنيوية وحياة التَّقوى

4: 1- 10

الُوْقَاحة في الحكم على الآخرين

4: 11- 12

تحذير مِن الاتِّكال على الذَّات

4: 13- 17

تحذير مِن الغنى والثَّراء

5: 1- 6

الصَّبر في الانتظار

5: 7- 12

الصَّلاة والإيمان

5: 13- 20


لاحِظ كيف يبتدئ يَعْقُوب وينتهي بالإيمان، وما بين البداية والنهاية يسعى فحسْب إلى إزالة العوائق من طريق الإيمان الصَّادق. أمَّا الغِنى فهو موضوعٌ آخَر يشغل تفكيره: الاعتبار المفرط الذي تناله الثَّروة، والشُّعور الكاذب بالأمان الذي تُحْدِثُه. كما إنَّه يصرُّ على الاستجابة العمليَّة لسماع الكلمة والإيمان بها على صعيد الواقع العمليّ بأَعْمَالنا وأفعالنا. وهو فوق ذلك كلِّه يحثُّنا على الصَّلاة في أسوأ الظُّروف ولأجل أفضل عطايا الله.