Skip to content

Commentaries
Arabic
كولوسي
  
17- كيف تنمو وحدة الكنيسة؟
(كُوْلُوْسِّيْ 3: 11- 15)
3:11حَيْثُ لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ, خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ, بَرْبَرِيٌّ سِكِّيثِيٌّ, عَبْدٌ حُرٌّ, بَلِ الْمَسِيحُ الْكُلُّ وَفِي الْكُلِّ.


وضَّح بولس التعدد والتنوع بين المنتسبين إِلَى كَنِيْسَةِ كُوْلُوْسِّيْ عندما فسَّر ضرورة تقديس المؤمنين الجدد، إذ إنَّ أعضاء هذه الكنيسة لم يكونوا من شعب واحد، بل مِن مختلف قبائل ولغات وأديان وطبقات المجتمع اليوناني آنذاك (Hellenismus). فوجد بينهم اختلافات جذرية بخصوص الأطعمة والملابس والعادات والحقوق. ولكنَّه أنهى هذه المشاكل بجملة صغيرة: مَن يلبس المسيح طوعاً لا يبقى الشخصَ الذي كان سابقاً، بل قد انتقل إلى حضارة جديدة ظاهرة بالمحبة والحق في القداسة والسلام. وليست هذه الصفات الجديدة نتيجة اجتهادات أعضاء الكنيسة اللطفاء، بل هي مواهب روحية من المسيح الحي الذي يوحِّد المؤمنين به من حضارات وطبقات اجتماعيَّة باسمه وبقوته. لا حاجة لتحقيق هذا التوحيد في مؤسسة عالمية، لأننا واحدٌ في المسيح بواسطة روحه القدوس. مَن يلتقِ أتباع المسيح السود والصفر والبيض والسُّمر يلاحظ الفرح الساطع في المتجددين، ويختبر لقاءاتهم وانسجامهم فيما بينهم، إذ يدركون أننا نخص المخلص مثلهم، ونثبت فيه كما هم يثبتون فيه.
يُطلق بولس أسماء بارزة على المؤمنين بالمسيح الموحَّدين في روحه القدوس،فيدعوهم المختارين الذين يُدركون أنَّهم مدعوُّون (Ecclesia) مِن شعوبهم للخدمة بين الأموات في خطاياهم. إنَّ الكنيسة المؤلفة من أعضاء لم يختبروا تغييراً جذريّاً في حياتهم هي مجرد أوهام وأمانٍ وأحلام جميلة لا تتحقَّق. وأعضاء كنيسة كهذه يتقسون تدريجياً ضد أتباع المسيح لأجل إيمانهم، فيصبح المؤمن الحق مرفوضاً مِن شعبه. وهذا التطور ينطبق على الكثير مِن المسيحيين الذين يتبعون ربهم حقاً.
سمى بولس الكنيسة المجتمعة عشوائياً من حضارات مختلفة قديسين، لأنهم قد تبرروا بدم يسوع المسيح، وتحرروا به في عمق كيانهم:"لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ" (عِبْرَانِيِّيْنَ 10: 14). وحَّد الروح القدس أتباع المسيح في كُوْلُوْسِّيْ، فأصبحوا هيكلاً مقدساً يسكن فيه الله فعلياً، على الرَّغم من المشاكل العديدة التي وقعت فيما بينهم، ولكنَّ إيمانهم بحَمَل اللهِ نقل جبال ذنوبهم مرة تلو الأخرى، إذ تابوا وتصالحوا في المحبة.
فوق هذا الامتياز تجاسر بولس أن يسمي الكنيسة في الأناضول أحباء الله. يرفض القرآن هذه التَّسمية رفضاً قاطعاً بالنسبة إلى اليهود والمسيحيين، ويدين إيمانهم كادعاء واستكبار (سورة المائدة 5: 97) بينما يُحبُّ الله جميع الذين ينفتحون لابن الله وروحه ويحبونه ويؤمنون به (يوحنا 14: 21؛ 16: 27: أَفَسُس 2: 4 ألخ). تسكن مسرة الله في المتطهرين والمتقدسين بدم المسيح وروحه.
عرف بولس أنَّ هؤلاء المفضلين لم يسلكوا بعد كاملين، بل احتاجوا إلى تنبيهات شديدة:"فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللَّهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ, وَلُطْفاً, وَتَوَاضُعاً, وَوَدَاعَةً, وَطُولَ أَنَاةٍ, مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً, وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً"(كُوْلُوْسِّيْ 3: 12- 13).
ينبغي ألاَّ تكون أفراح هذا العالم الهدف الوحيد لخلاص المولودين ثانيةً من غضب الله، بل أن تتحقق فيهم رحمته ولطفه ومحبته عملياً. لقد شهدت الاجتماعات، التي كانت تضم أعضاء من حضارات مختلفة، خلافاتٍ ومجادلاتٍ وغضباً ونفوراً بسبب الحساسية الزائدة، وكذلك شكاوى وضيقات. لذلك ينبغي لكلِّ عضو في الكنيسة قد دعاه الرب، أن يكون الأصغر في الجماعة والخادم للجميع. قال يسوع: "تَعَلَّمُوا مِنِّي, لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ, فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ" (متَّى 11: 29). يقصد المسيح بهذه الكلمات التَّغلب على القلب المريضٍ بالكبرياء والعناد وتسليمه إلى أبي الرحمة. ليست الكنيسة جماعة مدَّعين للبرِّ الذَاتي، بل هي جماعة مؤمنين يتعلمون أن يحتملوا بعضهم بعضاً بدون تذمر، ويسامحوا بعضهم بعضاً كما غفر الله أبوهم لهم غفراناً تامّاً. تُعلِّمنا الصلاة الربانية الغفران المتبادل في الكنيسة، لأننا نسأل أبانا السماوي فيها قائلين: "وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا"- ليس أكثر! (متَّى 6: 12). ومَن يدرك عمق هذه الطلبة يسامح كل مذنب إليه سريعاً بود ورضا تامَّين ويحبه، وإلا انفصل عن نعمة الله كلّياً (متَّى 6: 14- 15).
ليست في كنيسة المسيح إمكانية للانتقام، أو الجزاء العنيف المتبادل، أو البغض. لقد غلب موت المسيح الكفَّاري هذه الطلبات التي في شريعة العهد القديم والقرآن وأنهاها كلِّياً. تقضي شريعة اليهود والمسلمين البعيدين عن المسيح بالانتقام "وَعَيْناً بِعَيْنٍ, وَسِنّاً بِسِنٍّ, وَيَداً بِيَدٍ, وَرِجْلاً بِرِجْلٍ, وَكَيّاً بِكَيٍّ, وَجُرْحاً بِجُرْحٍ, وَرَضّاً بِرَضٍّ" (سفر الخروج 21: 24-25 وسورة المائدة 5: 45). ولا تسمح لهم شريعتهم بمسامحة أعدائهم، بل تفرض عليهم أن يأخذوا حقوقهم بالقوة والانتقام. أما يسوع فأمرنا: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ, أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ, وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ, لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ, فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ, وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ" (متَّى 5: 40- 45). استحق يسوع أن يعطينا هذا الأمر الإلهي لأنه حمل خطايانا وخطايا أعدائنا واستوفى مطالب الشريعة بموته الكفاري عن الجميع. ونحن لا نستطيع أن نتمم بأمانةٍ ما أمرنا به إلا إذا أعاننا الله وروحه ليلاً نهاراً على أن نُحبَّ الجميع كما يُحبُّهم هو.
يوصينا الرسول بولس أن نُتمِّم طلبات يسوع إلى أهل الكنيسة في كُوْلُوْسِّيْ، "وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ" (كُوْلُوْسِّيْ 3: 14).
المسيح هو محبة الله المتجسِّدة، وكما عاش وخدم وأحب بصبر فائق وتكلم بوضوح وتصرف باستقامةٍ، هكذا يجب على أتباعه أن يعيشوا، وأن يتعلموا المحبة المتبادلة وإكرام الجميع. ولا بدَّ مِن وضع حدٍّ لكلِّ تعاملٍ معارضٍ لهذا الروح. لقد وضع يسوع لعهده الجديد شريعة واضحة:"وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ, أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي, إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ" (يوحنا 13: 34- 35). ليس مستحيلاً تحقيق هذه الوصية، لأنَّ ربنا المقام مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ منحنا قوة عظيمة لا تدرَك حتَّى نتمكَّن مِن تنفيذ هذه الوصية الأساسية في العهد الجديد. وشهد بولس وكتب:" إنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا" (رومية 5: 5).
إنَّ الروح القدس في الكنيسة هو القوة والدافع والحق لتحقيق محبة الله فينا والتَّغلب على أنانيتنا الأصلية. وهذه الحقيقة تفوق إدراك العقول، بل تتحقق في المبادئ السماوية. فمَن يؤمن بكلام يسوع ورسوله بولس ويتعمق فيه ويشكر لأجله يبدأ في لبس رداء الكمال، ليس كزينة لنجاحه، بل يفكر في هذه الحياة الروحية في الضيقات وفي الكيان المختلف لأعضاء الكنيسة، ويرتبط بهم كما هم. كتب أحد آباء الإيمان: "لا أقدر المسيحية كفكر فلسفي، بل كحياة في المحبة ضمن جماعة المؤمنين".
اختبر بولس ثبات المحبة والسلام واستمرارهما بواسطة الغفران المتبادل، وأدرك أيضاً أنَّ المحاولات البشرية للمصالحة ومقاصد إنشاء السلام ممكنة مؤقتا،ً ولكنها زائلة مع الوقت. لذلك تكلَّم عن سلام آخر، هو سلام يسوع المسيح، والسلام الذي يعم في وحدة الثَّالُوْث الأَقْدَس. قال يسوع :" سَلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ" (يوحنا 14: 27). إنَّ يسوع هو رئيس السلام، وهو يشركنا في امتيازه ليتحقق السلام في شركتنا. يحاول إبليس دائماً أن يدمر سلام الله في الكنيسة. فلا نتعجب من التوترات والاختلافات والغضب بين الأفراد والفرق والعشائر. هذا طبيعي! أمَّا دواء هذا المرض فهو الغفران المتبادل والخضوع الطوعي. ولا بد لنا مِن أخذ هذه الجرعة السماوية وبلعها حتَّى تعمل عملها فينا. أمر الرسول بولس بهذا الخصوص:" لْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللَّهِ الَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ, وَكُونُوا شَاكِرِينَ" (كُوْلُوْسِّيْ 3: 15).
يكمن سرُّ هذه الآية في الكلمتين: لْيَمْلِكْ ودُعِيتُمْ. فمَن يعيش في المسيح ومعه، هو مدعو أن يؤمن ليس لأجل نفسه فحسب، بل لأجل أعضاء الكنيسة الآخرين أيضاً، ليصبح وإيَّاهم وحدة روحية في صيغة الإنجيل. هذه الشركة المجتهدة هي جسد المسيح الروحي، وهو رأسها، ونحن أعضاؤه. وليس على الرأس أن يفكر ما نريده نحن، بل بالعكس ينبغي أن نريد ما يفكر به هو. لا يريد الروح القدس، وهو روح السلام والمصالحة، فقط أن يعزينا ويقوينا ويدفعنا إلى خدمات مهمة، بل أن يحكم في الكنيسة وفي أفرادها. فنجاحنا مبني على حكمه فقط. ونطلب إليه أن يغلب معارضتنا لقيادته ويمنحنا طاعة مطمئنة في إرشاده. عندما يملك روح ملكنا يتحقق ملكوت الله. فلا نتعجب من كنيسة قليلة التوترات، بل نشكر الرب لأجلها. هذا السلام في الكنيسة هو هبة خاصة من الله. ومَن يشكر لهذه الهبة ينسجم مع خطة الله ويقرأ عن هذا السر في العهد القديم " ذَابِحُ الْحَمْدِ يُمَجِّدُنِي, وَالْمُقَوِّمُ طَرِيقَهُ أُرِيهِ خَلاَصَ اللَّهِ" (مزمور 50: 23).

الصَّلَاة
أيُّها الآب السماوي، نُعَظِّمك ونتهلل لأنك منحتَنا سرّ الكنيسة حتى نعيش مع المؤمنين في المسيح بالمحبة. ساعدنا على أن نلبس المسيح، ونعيش حسب قدوته، وسامحنا إنْ أخطأنا بأنانيتنا وكبريائنا، واجعلنا خداماً متواضعين قادرين أن نحتمل جميع الأعضاء، ونختبر سلامك ومحبتك وإرشادك في كل يوم جديد، ليس في عائلتنا فحسب، بل في كنيستنا أيضاً. آمين.
السُّؤَال
لماذا تظهر في الكنائس التي فيها أعضاء من حضارات مختلفة توترات وسوء تفاهم بشكل كبير، وكيف نتغلب على هذه الانشقاقات؟ ما هي الأسماء والصفات البارزة التي يُطْلقها بولس على أعضاء الكنيسة المجتهدين؟ ما هي المشاكل التي ينبغي لأعضاء الكنيسة أن يتغلَّبوا عليها؟ لماذا تعتبر محبة الله هي سر كنيسة المسيح؟ كيف يمكن أن يثبت السلام في الكنيسة؟