Skip to content

Commentaries
Arabic
يوحنا
  
ج: كلمة المَسِيْح لأُمِّه
(يوحنّا 19: 25- 27)
19:25وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوع أُمُّهُ وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّة.26فَلَمَّا رَأَى يَسُوع أُمَّهُ وَالتِّلْمِيذَ الَّذي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً قَالَ لأُمِّهِ يَا امْرَأَةُ هُوَذَا ابْنُكِ.27ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ هُوَذَا أُمُّكَ. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ


لم يذكر يوحنّا الكلمة الأولى الَّتي قالها يَسُوع وهو على الصَّلِيْب، مسامحاً العالم كلَّه. ولم يذكر استهزاء اليهود المتواصل به، ولا غفران يَسُوع للِّص الَّذي كان مصلوباً عن يمينه. فهذه التِّفاصيل كانت معروفةً في الكنيسة حين كتب يوحنّا إِنْجِيْله.
وعندما غادر رؤساء الكهنة موضع الصَّلِيْب، بدون أن يسمعوا ابتهال المصلوب وتضرُّعه إلى أبيه طالباً الغفران لصالبيه، غادر الجمع أيضاً، مسرعين إلى أورشليم ليذبحوا لعائلاتهم حملان الفصح، لأنَّ وقت الاستعداد كان ضيِّقاً. فعاد رؤساء الشعب مسرورين ظنّاً منهم أنَّهم قد وُفِّقوا في قتل المَسِيْح الكذَّاب في مُستهَلِّ العيد، حين يكون الشَّعب كلُّه منهمكاً في إعداد الذَّبائح.
وحضر الرؤساء بأنفسهم لممارسة الطقوس المقدَّسة الخاصّة للعيد الكبير في الأمَّة، وصدحَت أصوات الأبواق مِن أسوار المدينة، وذُبحَت الحملان في الهيكل، فجرَت أنهارٌ مِن دمائها، وامتلأ الهيكل بالتَّسابيح، تاركين حَمَل الله القُدُّوْس، حمَل الفصح الحَقِيْقِيّ المذبوح لأجلهم، خارجاً مُعلَّقاً على خشبة اللعنة مع لِصَّين، تحت حراسة جنودٍ رومانيين وثنيِّين.
وفي تلك الأثناء، اقتربت مِن الصَّلِيْب بعض النّسوة بهدوءٍ، ومعهنَّ فتىً، ووقفوا جميعاً صامتين تحت الصَّلِيْب. لقد فاقت هذه الأحداث عقولهم، فوقفوا يتأمَّلون القادر على كل شيء، وصانع العجائب، ومُقيم لِعَاْزَر، وهو مُعلَّق على الصَّلِيْب فوق رؤوسهم، وأهوال آلام الجلد والصَّلب تعصف بجسده الرَّقيق البريء الطَّاهر الَّذي يفيض لطفاً ومحبَّةً وحناناً. فلم يستطع أحدٌ منهم أن يتلفَّظ بكلمة تعزية. وكادت قلوبهم الممزَّقة تعجز عن الصَّلاَة، ولعلَّهم في ذلك الموقف الجلل، ردَّدوا مزامير نابعةً مِن شعورهم الباطني.
وسمع يَسُوع صراخ قلب أمِّه، وأبصر دموع تلميذه الحبيب يوحنّا. فلم يُفكِّر في نفسه رغم إقبال الغيبوبة عليه، بل انسجمت مشاعره بآلام أحبَّائه، وعندئذٍ سمعوا صوته المحبوب فوق رؤوسهم، مخاطباً أُمَّه: "يَا امْرَأَةُ هُوَذَا ابْنُكِ". لم يقُل لها: "يا أمِّي"، لأنَّه لا يخصُّ إنساناً ما، بل هو خاصَّة الله وحده، وليس لأُمِّه أيُّ حقٍّ خاصٍّ. لقد كان حَمَل الله، وتمَّ فيه ما كان قد قاله لها بخشونةٍ في عرس قانا الجليل عن دنوِّ أجَله، حين حوَّل الماء الكثير إلى خمرٍ، رمزاً لدمه الكافي لخلاص جميع البشر (2: 4).
لا نهاية لمحبَّة يَسُوع. فهو في وسط آلامه على الصَّلِيْب فكَّر في أحبَّائه، واهتمَّ برعايتهم. لقد علم أنَّ اليهود الأشرار سينظرون إلى مريم أمِّه نظرتهم إلى والدة إنسان مُضِلّ وملعون ومصلوب على خشبة العار، وبالتالي ستكون أمُّه مرفوضةً مِن الأمَّة. وقد تحقَّقت فيها نبوَّة سمعان الشَّيخ حين قال لها: "وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ" (لُوْقَا 2: 35)، كما تحقَّق فيها، في هذه السَّاعة المُرَّة، معنى اسمها "المرارة".
لم يكن يَسُوع يملك عقاراً ولا مالاً ولا فلساً واحداً يقدِّمه لأُمِّه، فقدَّم لها محبَّته الَّتي سكبها في قلوب تلاميذه وأهل كنيسته المسكونيَّة.
كان يوحنّا التلميذ البشير حاضراً مع أمِّ يَسُوع تحت الصَّلِيْب (مَتى 27: 56)، ولكنَّه لم يذكر اسمه ولا اسم العذراء كيلا ينتقص مِن الجلال الَّذي استحقَّه المَسِيْح في ساعة مجده. فقط عندما خاطب يَسُوع يوحنّا وعهد إليه بأمه، أقحم يوحنّا نفسه في بهاء الصَّلِيْب، فاحتضن مريم، وأخذها إلى بيته. وفي هذه المناسبة عَلِمنا أنَّ يوحنّا كان يمتلك بيتاً في أورشليم. فهو لم يكن فقيراً، بل استطاع أن يعيل أم يَسُوع ويهتمَّ بها. وربَّما سمح الجند له بالاقتراب من الصَّلِيْب حين لاحظوا بدَنه الدَّقيق النَّحيل الَّذي لا يُمكن أن يُشكِّل خطراً عليهم، نظراً لعدم قدرته على تحرير المصلوب.
وشهدت النساء الأخريات بصمتٍ اهتمام يَسُوع هذا بأمِّه. وكان الرَّبّ قد حرَّر إحداهنَّ سابقاً مِن سبعة شياطين، وتلك هي مريم المَجْدَلِيَّة الَّتي اختبرت قدرة يَسُوع الظافرة في نفسها، فأحبَّت مُخلِّصها وتبعته حتَّى الصَّلِيْب، فشملتها محبته لأمنائه وحفظتها من الشِّرير، لأنَّ الشِّرير لا يستطيع الاقتراب منك ما دُمتَ قريباً مِن الصَّلِيْب.