Skip to content

Commentaries
Arabic
يعقوب
  
تحذيرٌ مِن الغِنى والثَّراء
(5: 1- 6)
5:1هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ ابْكُوا مُوَلْوِلِينَ عَلَى شَقَاوَتِكُمُ الْقَادِمَةِ.2غِنَاكُمْ قَدْ تَهَرَّأَ وَثِيَابُكُمْ قَدْ أَكَلَهَا الْعُثُّ.3ذَهَبُكُمْ وَفِضَّتُكُمْ قَدْ صَدِئَا وَصَدَأُهُمَا يَكُونُ شَهَادَةً عَلَيْكُمْ وَيَأْكُلُ لُحُومَكُمْ كَنَارٍ. قَدْ كَنَزْتُمْ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ.4هُوَذَا أُجْرَةُ الْفَعَلَةِ الَّذِينَ حَصَدُوا حُقُولَكُمُ الْمَبْخُوسَةُ مِنْكُمْ تَصْرُخُ وَصِيَاحُ الْحَصَّادِينَ قَدْ دَخَلَ إِلَى أُذُنَيْ رَبِّ الْجُنُودِ.5قَدْ تَرَفَّهْتُمْ عَلى الأَرْضِ وَتَنَعَّمْتُمْ وَرَبَّيْتُمْ قُلُوبَكُمْ كَمَا فِي يَوْمِ الذَّبْحِ.6حَكَمْتُمْ عَلَى الْبَارِّ. قَتَلْتُمُوهُ. لاَ يُقَاوِمُكُمْ


الفقراء هم دائماً معنا، أمَّا الأغنياء فليسوا ببعيدين أبداً. وحتَّى في أفقر مدن العالم تحتكُّ أكتاف الأغنياء بالفقراء خلال النَّهار، فيما ينسحب الأَوَّلون ليلاً إلى منازلهم المُترَفَة مُشيِحِين بأنظارهم وأفكارهم عن أبناء جِلْدتهم المعوَزين. هل ثمَّة علاقةٌ تجمع بين الطَّبقة التي يُخاطبها يَعْقُوب في (4: 12) وتلك التي يوبِّخها في (5: 1)؟ فالعبارة التي يستهلُّ بها خطابه لكلِّ منهما واحدةٌ: "هَلُمَّ" هي في اللُّغة كلمة دُعاءٍ إلى أمرٍ ما، واستُعملت في السِّياق هنا لتوجيه إنذارٍ صارمٍ. وعلى الرَّغم مِن أنَّ الفريقَين ليسا متطابقَين في جميع الأمور، لكن يُوحِّد بينهما طلب الثَّروة والرِّبح المادِّي إلى جانب اللاَّمبالاة بالله. فالفريق المذكور أوَّلاً قوامه التُّجار، أمَّا الأخير فموُلَّفٌ مِن المستثمِرين ومالكي الأراضي.
كان مِن بين أعضاء الجماعات المَسِيْحيَّة الأَوَّلى عددٌ لا بأس به مِن الأشخاص البارزين الأغنياء (1: 10؛ 2: 2). وكان مُنتظَراً مِن أَمْثَال هؤلاء أن يتخطَّوا قواعد العرف العالميّ في معاملة المستأجرين والعمَّال، وربَّما أن يقتدوا ببرنابا (أَعْمَال 4: 36، 37). ولكن يتَّضح أنَّ كثيرين منهم قد أخفقوا في ذلك لأنَّهم وجدوا في نماذج السُّلوك الوثنيِّ ما ينسجم مع مصالحهم. بقسوةٍ مميَّزةٍ يوبِّخ يَعْقُوب الأغنياء على إسرافهم، ويحثُّهم على البكاء والإعوال على ما ينتظرهم. إنَّ العبارة "ولولوا" أو "أَعْوِلوا" اليونانيَّة هي شقيقة الأصل اللاتيني للعبارة الإنكليزية ululate التي تفيد صوت العويل الذي تُطلقه النَّوادب والنَّوائح المحترفات في المآتم والجنائز. الآن وقتٌ للعويل، بينما لا يزال ثمَّة أملٌ لإنقاذ نفسك.
قد يسأل سائلٌ هل ثمَّة تناقضٌ في أن يدين الرَّسولُ الأغنياء، وهو لم يكد يفرغ مِن التَّنديد بالانتقاد وذَمِّ الآخَرين؟ تجدر الإشارة هنا إلى نقطتين: أوَّلاً إنَّه يتحدَّث بوحيٍ مِن الرُّوح القُدُس. فالله هو الذي يدين ويُنْذِر. ونحن لا نجرؤ على أن نتجادل وإيَّاه؛ إضافةً إلى أنَّ الاتِّهام ليس موجَّهاً إلى أيِّ شخصٍ محدَّدٍ. فهو يصف طبقةً مِن الأفراد، وعلى سامع الكلمة أن يُقرِّر هل التُّهم منطبقةٌ عليه. ويمكنه أن يهزَّ كتفيه باستهجانٍ، ويخدع نفسه، معتبراً المسألة لا تخصُّه (1: 22)؛ أو يمكنه أيضاً أن يُسلِّم بالفكرة ويعتزم أن يُصلح نفسه قبل فوات الأوان (لُوْقَا 18: 22؛ 19: 8). لقد أبدى كلٌّ مِن الوجيه الغني وزكَّا العشَّار استجابةً مختلفةً، فالأَوَّل مضى حزيناً، أمَّا الثَّانِي ففتح قلبه ويديه وبيته.
يُصنِّف يَعْقُوب نفسه بجانب أنبياء العَهْد القديم العِظام الذين كان توبيخهم موحىً به مِن الله وعادلاً. وقد تجاهَلهم معظم الذين سمعوا الكلام المنطوق المتضمِّن الإعلان عن كارثةٍ وشيكةٍ. ولكنَّ سَير الأحداث أوقَع الدَّينونة المتنبَّأ عنها حتماً.
إنَّ تعليم يَسُوْع منعكسٌ في قوَّة النَّص الدَّافعة واستعمال الأفعال التي توافق التَّهرُّؤ والصَّدأ (2، 3 قارن متى 6: 19- 21). ويستعمل يَعْقُوب بأكثر تخصيصٍ ثلاثة أفعالٍ، أوَّلها يتَّصل بالحبوب أو الخُضَر، وثانيها بالثِّياب، وآخرها بالذَّهب والفضَّة. وسواء كان صدأ الذّهب قريباً مِن الفكرة أم لم يكن، فهو بمعناه الحقيقي يهلك مع المالك ولا ينفعه شيئاً في بؤسه أو موته (أَعْمَال 8: 20).
يتمتَّع الذَّهب والفضَّة بخواصّ ترفعهما عن المعادن القليلة القيمة. وهذه الصِّفات القويَّة والأصيلة قلَّما تنتقل إلى مالكيها الذين يُظهرون عموماً الخِسَّة والحقارة اللَّتين يدينهما يَعْقُوب بقسوةٍ. إذا كانت محبَّة المال أصل جميع الشُّرور (1 تِيْمُوْثَاوُس 6: 19)، فهذه المحبَّة ينحطُ قَدْرها إلى الجشع عند تحقيق الهدف. الأصل شرِّيرٌ، وكذلك الثَّمر انهيارٌ أخلاقيٌّ وروحيٌّ. يستخدم يَعْقُوب الاستعارة المناسبة للصَّدأ أو التَّأكُّل ليُوضح هذه النَّتيجة. فالتَّأكُّل ينخر "الجسد" متغلغلاً في أعماق كيان المرء؛ فيُدمِّر، سواء ببطءٍ كالصَّدأ أو بسرعةٍ كالنَّار، الجسمَ الذي هو في النِّهاية الهمُّ الوحيد لذوي العقليَّة المادِّيَّة. يربط بعض المخطوطات "كَنَارٍ" بالجملة التي تليها لتُعطي الدَّينونة المدَّخَرة بُعداً أُخْرَوِيّاً (3).

ثمَّة تُهمٌ موجزةٌ أربع بحقِّ المتهمين في سلَّم الخطورة الصَّاعد:
1) قَدْ كَنَزْتُمْ (3)، وبدون هذا الادِّخار لا يستطيع أحدٌ أن ينطلق في طريق الغنى.
2) قَدْ تَرَفَّهْتُمْ (5)، وهذه ليست قاعدةً ثابتةً عند الأغنياء.
3) قَدْ تَنَعَّمْتُمْ على حرمان الذين تستغلُّونهم (5)، مع الاتِّهام المبطَّن بالتَّجاهل التَّام للتُّعَساء.
4) قَدْ حَكَمْتُم بمعاقبة الأبرياء، وفي بعض المرَّات سحقتموهم (6).

مِن الواضح أنَّ قلَّةً مِن الأغنياء ستردُّ على التُّهمة في جميع الأحوال، ولكن على المبدأ المذكور في (2: 10)، وهو أنَّ جُنحةً واحدةً تكفي لجعل المرء مذنباً بكسر شَرِيْعَة الله.
منذ قرنٍ مِن الزَّمان مارس رجال الصِّناعة الفكتوريُّون13المتردِّدون على الكنيسة بانتظامٍ أشكالاً مشابهةً مِن الاستغلال. فاقتنى الجنوبيُّون الأتقياء مئات العبيد في عمق الجنوب وعاملوهم بقسوةٍ. وقد تحسَّنت ظروف الطبقات الاجتماعيَّة الدُّنيا على نحوٍ ثابتٍ بعد ذلك، بفضل جهود حشدٍ مِن المصلحين الاجتماعيِّين، منهم مسيحيُّون بارزون.
هل هذه الشُّرور بقيَّةٌ مِن الماضي؟ إنَّها لا تزال واسعة الانتشار. وكثيراً ما تنشر الصُّحف تقارير عن مناطق مِن العالم حيث الظُّلم والنَّهْب هُما الوضع السَّائد: مناجم القصدير البوليفيَّة شمالي البرازيل، معاملة البانتو14في جنوبي أفريقيا، أو المنبوذين15في الهند. فلْنَسْهَر ونُصَلِّ ألاَّ ندخل في مثل هذه التَّجارب، تكديس الكنوز، التَّرفُّه، التَّغاضي عن الظُّلم.
بما أنَّ العبارة "البَارّ" (في الآية 6) قد وردت في الأصل اليوناني بصيغة المفرد، يعتبرها بعض آباء الكنيسة إشارةً إلى المَسِيْح البارِّ الذي حُكم عليه ظُلماً وقُتِل بوحشيَّةٍ. وسواء كانت لدينا إشارةٌ مباشَرةٌ هنا ليَسُوْع أو لم تكن، فهو يتألَّم فعلاً مِن خلال اضطهاد قدِّيسيه واستشهادهم (أَعْمَال 9: 4). لقد قيل عن هابيل أوَّل بريءٍ تألَّم ومات إنَّ دمه صرخ إلى الرَّبِّ مِن الأرض (تكوين 4: 10). إنَّ ربَّ الجنود "الصَّبؤوت" لا يزال يسمع صرخات جميع الذين يتألَّمون ظُلماً وعدواناً، والتي قد يبدو أنَّها بدون تعويضٍ (4). إنَّ اسم يهوه في السِّياق يُذكِّر بأَعْمَال عنايته. فهو يحمي شعبه، ويعطيهم ما يطلبون (1 صموئيل 1: 11)، ويُجازي أعداءهم (1 صموئيل 15: 2). وهو يتابع عمله هذا في يومنا الحاضر، معاقباً الجلاَّدين والمستغِلِّيْن: "لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي" (رومية 12: 19).