Skip to content

Commentaries
Arabic
رؤيا يوحنا
  
5- صوتٌ مِن السّماء يُعزِّي الأموات في الرّبّ
(رؤيا 14: 12- 13)
14:12هُنَا صَبْرُ الْقِدِّيسِينَ. هُنَا الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا اللَّهِ وَإِيمَانَ يَسُوعَ.13وَسَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ السّماء قَائِلاً لِي, اكْتُبْ. طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرّبّ مُنْذُ الآنَ نَعَمْ يَقُولُ الرّوح, لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ, وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ.

ما هو الشَّيء المشترك بين الموت المهدِّد والصَّبر؟ كيف يمكن للقدِّيسين أن يكونوا صابرين حين يكون سيف ديموقليس مسلَتاً فوق رؤوسهم؟ مَن هم هؤلاء القدِّيسون؟
ليس إنسانٌ صالحاً في نفسه. جميعنا نجسون وفاسدون. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً, لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ (مزمور 14: 1- 3؛ رومية 3: 10- 12 وآيات أخرى) ما عدا يسوع. حتَّى الشَّياطين ارتعبوا وصرخوا عندما رأوا يسوع يقترب منهم ودعوه قدّوس الله (مرقس 1: 23- 24؛ لوقا 4: 33- 34). ليس لنور قداسة الله المشرق السَّاطع أيّ شيء مشترك بينه وبين ظلمة شرِّ خطايانا.
ولكنَّ قداسة المسيح دمَّرت شرَّنا على الصَّليب. فدمه يُطهِّرنا مِن كلِّ خطيَّةٍ، ونعمته جديدةٌ كلَّ صباحٍ، وأمانته عظيمةٌ. لقد برَّرنا بموته الكَفَّارِيّ كي نُبرّأ ونُعفى مِن وجهة النَّظر الشَّرعية ونكون بلا لومٍ. وفوق ذلك يُقدِّس يسوع أتباعه ويعطيهم روحه القدّوس. ويقودنا هذا الرّوح إلى تقديس حياتنا وإلى المحبَّة والتَّواضع فتُغلَب نجاستنا وأنانيتنا وكبرياؤنا ليس مِن وجهة النَّظر الشَّرعية فقط بل في الواقع أيضاً.
إنَّ روح الآب وابنه هو في الوقت نفسه الحياة الأبديَّة والله المعزِّي الذي يقوِّينا في الكرب والشِّدة والموت. بسبب تبريره وروحه نستطيع أن نبقى هادئين وصابرين في أعظم المحن والشَّدائد، ليس انطلاقاً مِن قوَّتنا الذَّاتية بل لأنَّه هو يعمل فينا بقوّة روحه وتعزيته. الحياة الرّوحية التي منحنا إيَّاها قد غلبت الموت. وقوّة الرّوح القُدُس جعلتنا نشترك، بواسطة اعتمادنا، في موت يسوع وقبره وقيامته (رومية 6: 3- 4). لذلك ينبغي ألاَّ نخاف على حياتنا. مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْنا, فَنَحْيَا لاَ نَحنُ بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيْنَا (غلاطية 2: 19- 20).

يبذل المسيحيّون جهداً حتَّى في الضِّيقة والإضطهاد للتَّقيُّد بوصايا الله وحَمَله، لأنَّ مَن يكسر وصاياه عمداً سيقفز إلى الهاوية وينتهي في جهنَّم. ولكن هل نحن نعرف حقّاً جميع وصاياه؟ أعطى موسى شعبَه 365 وصيَّة ناهية (تبدأ بلا النَّاهية) بحسب عدد أيَّام السَّنة، وأعطى بحسب عدد عظام الإنسان 248 وصيَّة موجبة كي نعرف ما ينبغي أن نفعل. واختصر يسوع هذه الوصايا كلَّها بوصيَّتين ترجعان إلى موسى: تُحِبُّ الرّبّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ, وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ, وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَتُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ (تثنية 6: 5؛ لاويين 19: 18؛ متَّى 22: 36- 40؛ مرقس 12: 28- 32؛ لوقا 10: 25- 27). إنَّ محبَّة الله والنَّاس هي خلاصة جميع الوصايا.
ولكن يوجد في الأناجيل الأربعة أيضاً حوالي 500 وصية ونصيحة وضعها يسوع بنفسه. يقودنا الرّوح القُدُس إلى التَّقيد بهذه الوصايا لأنَّها وصايا العهد القديم المعمَّقة والمشدَّدة. اختصر يسوع وصاياه هو بوصيَّتين أبرز وأوضح. الوصيَّة الأولى هي: كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً (يوحنَّا 13: 34- 35). محبَّة يسوع هي معيار محبَّتنا وقداستنا وتواضعنا. وكلُّ مَن يقارن نفسه بمجد يسوع سيصبح صغيراً في نظره ويعيش على نعمة مخلِّصه وحدها. ووصيَّة ربِّنا الثَّانية هي: كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ (متَّى 5: 48). يمكن أن تقودنا هذه الآية إلى اليأس لولا وجود الكلمة "أب". إنَّ العوامل الوراثية لأبينا السَّماوي والحق المعطى منه في أن نكون أولاده هي ضمانة كمالنا الذي يريده منَّا ويمنحنا إيّاه في الوقت نفسه. وهذا الكمال يتحقَّق في أتباع يسوع كما يشهد القِدِّيْس بُوْلُس: لأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرّوح القُدُس الْمُعْطَى لَنَا (رومية 5: 5).

إنَّنا ننال الحقوق الصَّالحة والإمتيازات والعطايا الرّوحية بواسطة ربنا
يسوع المسيح وحده الذي هو حَمَل اللهِ. والكلمة "يسوع" هي أهمُّ كلمةٍ في العهد الجديد، وهذا الاسم الذي هو "فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ" (فيلبي 2: 9) يرد 975 مرَّة هناك. ونجد هذا الاسم "يسوع" في سفر الرّؤيا بخاصَّةٍ عشر مرَّاتٍ (رؤيا 1: 1، 2، 9؛ 12: 17؛ 14: 12؛ 17: 6؛ 19: 10؛ 20: 4؛ 22: 16، 20). يسوع المسيح هو الألف والياء، البداية والنِّهاية، حتَّى في سفر الرّؤيا. وهذا السّفر لا يبحث أساساً إلاَّ في حرب يسوع على ضدّ المسيح وأتباعه، وفي انتصار حَمَل اللهِ على ابن الشِّرير.
سيُنفِّذ يسوع برنامج خلاص اسمه ضدّ كلِّ مقاومةٍ وتجربةٍ واضطهادٍ ويُخلِّص شعبه مِن العهدين القديم والجديد مِن جميع خطاياهم (متَّى 1: 21).
ماذا يعني الإيمان بيسوع؟ يعني الإيمان بيسوع أن نعرفه، وأن نحبَّه، وأن نرتبط به، وأن ندخل في عهدٍ معه للزَّمان والأبديَّة، وأن نحيا معه، وأن نخدمه؛ وإذ نفعل ذلك يخدمنا هو بدوره ويسامحنا ويأتي بنا إلى الأبديَّة. يعني الإيمان بيسوع علاقةً شرعيَّةً وروحيَّةً، عاطفيَّةً ومدروسةً به. وهو يمضي مع أتباعه تحت النِّير نفسه حيث يُتيح لهم أن يحرثوا العالم ليزرعوا البذور ويأتوا بغلَّتها. يسوع حاضرٌ مع أتباعه إلى انتهاء الدَّهر (متَّى 28: 20)، يحيون معه وفيه، وهو يحيا معهم وفيهم. لا يمكن سبر غور علاقة المسيحي بربِّه ومخلِّصه منطقيّاً، حيث إنَّها تخضع إلى واقعٍ روحيٍّ ولها منطقٌ سماويٌّ أسمى مِن منطقنا البشري.
تعني الكلمة "إيمان" أيضاً في اليونانية "الأمانة" (والكلمتان في العربيَّة مشتقَّتان مِن فعلٍ واحدٍ ومعنى مشترك). ينبغي لمَن ينضم إلى العهد مع يسوع أن يبقى أميناً أمانة يسوع له. وهذا يُقصي تماماً كلَّ ارتباطٍ بروحٍٍ آخر وبإلهٍ آخر. فالإيمان بيسوع هو الحماية مِن الارتداد، وهو سيغلب تجربة الدُّخول في علاقةٍ بابن التِّنين. إذا كانت بابل الزَّانية تجادل أنَّ ما مِن مشكلةٍ في خدمة سيِّدين فهي كاذبةٌ. لن يتوِّج يسوع قلباً منقسماً. فكما أسلم نفسه كلِّياً لأجلنا يتوقَّع منَّا تسليماً دون قيدٍ أو شرطٍ ولو اقتضى الأمر أن نموت في سبيل ذلك. أمانتنا هي امتناننا لأمانته وستكون مِن ثمار محبَّته في النِّهاية.

بعدما تكلَّم الملاك الثَّالث عن العلاقة العميقة بين يسوع وأتباعه سمع الشَّيْخ الجَلِيْل يوحنا صوتاً مِن السّماء. وتلقَّى إعلاناً جديداً، رسالةً خاصَّةً للشُّهداء والذين فُجعوا فيهم. أمره الصَّوت الآتي مِن الأبديَّة أوَّلاً أن يكتب: طُوْبَى. تظهر هذه الكلمة الرَّائعة ستَّ مرَّاتٍ في سفر الرّؤيا بعد أخبار زمن الإضطهاد الذي يتولاَّه ابن التِّنين، ومرَّةً أخرى في مكانٍ آخر، أي إنَّها ترد سبع مرَّاتٍ في السِّفر نفسه (الأصحاح 1: 3؛ 14: 13؛ 16: 15؛ 19: 9؛ 20: 6؛ 22: 7، 14). ومعنى "طوبى" في العربيَّة امتياز الجلوس إلى مائدة الله الآب والإبن والشَّركة معه ومع الشُّيوخ الأجلاَّء والرُّسُل. وتعني "طوبى" في الألمانيَّة الإبتهاج والغبطة بعد النَّجاة مِن معاناةٍ شديدةٍ، كمَن كان محبوساً حبساً إفرادياً في غرفةٍ مظلمةٍ لسنواتٍ عديدةٍ ثمَّ أُخلي سبيله فجأةً ليجد نفسه حراً تحت الشَّمس. وتعني "طوبى" في التُّركية التَّباهي بالإمتياز الفريد للإنتماء إلى عائلة الله الآب. الطُّوبى أو المبارَك أو السَّعيد هو أيضاً الطِّفل الذي، بعد ألمه، يجد مكانه في حضن أمِّه.
أوضح يسوع بحسب إنجيل متَّى بالتَّفصيل مَن هم الذين يصحُّ أن يصبحوا "مباركين" فيقال فيهم "طوبى لهم" (متَّى 5: 3- 12). وأنهى تطويباته كما يلي: طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ, مِنْ أَجْلِي, كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا, لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ, فَإِنَّهُمْ هَكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ (متَّى 5: 11- 12).
إلهنا هو إله ودادٍ والرّوح القُدُس هو روح فرحٍ وتعزيةٍ. وقد أكَّد يسوع ذلك بقوله: أُريد أن يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ (يوحنَّا 15: 11؛ 17: 13).
يقدِّم الصَّوت الخارج مِن السّماء، في سفر الرّؤيا، تفاصيل عن أسباب تطويب الشُّهداء: هؤلاء الأشخاص مباركون الذين يموتون في الرّبّ. يتحدَّث العهد الجديد في 175 آية عن هذا التَّعبير اللافت للنَّظر، أي أنَّ المسيحيّين لا يجولون في العالم فحسب، بل يعيشون أيضاً "في" الرّبّ. فهم متكاملون في حمايته ومحبَّته وعنايته وقوَّته. وهم يشتركون في آلامه ومجده. لقد أصبحوا متَّحدين بربِّهم. يؤكِّد القِدِّيْس بُوْلُس لكنيسة يسوع المسيح أنَّها جسده الرّوحي (1 كورنثوس 3: 16؛ 6: 19؛ 2 كورنثوس 6: 16) وأنَّ نعمته في الضَّعف تُكمَل (2 كورنثوس 12: 9).
الإيمان بالمسيح لا يعمل في العقل والعاطفة والنِّية فحسب، بل يعني أن نكون فيه. وهذه نعمةٌ تفوق فهمنا ولا يمكننا أن نشكر الله شكراً كافياً لأجلها.
وأن "نكون في المسيح" ستجاوز موتنا الجسدي. يشهد يوحنَّا قائلاً: مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ, وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللَّهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ (1 يوحنَّا 5: 12). إنَّ معنى الحقيقة أنَّ الآب والابن والرّوح القُدُس يسكنون في الذين يحبونهم هو أنَّ هؤلاء ينالون بذلك الحياة الأبدية الإلهيَّة غير المخلوقة (يوحنَّا 14: 23؛ 17: 2، 3، 14- 15، 21- 23؛ أعمال الرسل 1: 8 وآيات أخرى).
ليس للموت أيّ حقٍّ أو سلطانٍ على أتباع المسيح (1 كورنثوس 15: 55، 57). فهؤلاء يحيون في المسيح حتَّى ولو ماتوا (يوحنَّا 11: 25- 26). لقد دُفنوا مع المسيح وقاموا (رومية 6: 3- 4؛ كولوسي 2: 12- 13). أجلسهم الله في الأماكن السَّماوية مع حَمَل اللهِ (أفسس 2: 6؛ فيلبي 3: 20؛ كولوسي 3: 1؛ عِبْرَانِيِّيْنَ 12: 22 وآيات أخرى). في وسط الموت لدينا سببٌ للفرح والإبتهاج. يقول الصَّوت الخارج مِن السّماء أنَّ الذين لأجل يسوع يرفضون السُّجود لضدّ المسيح ولا يحملون علامته سيدخلون راحة الله ويحيون إلى الأبد ويحمدونه. يُثبت الرّوح القُدُس هذه الحقيقة بوضوحٍ بقوله الإلهي "نعم" (رؤيا 2: 7؛ 22: 17 وآيات أخرى).
إذا ضحَّى أحد أتباع المسيح بنفسه كلياً لأجل المسيح لأنَّ المسيح ضحَّى بنفسه كلياً لأجله أوَّلاً، فسيُكرم بملء نعمة الحياة الأبديَّة.
رغم ذلك كلِّه لن يتبرَّر أيٌّ كان بصلاحه الشَّخصي ولا بأعماله ولا حتَّى بذبيحة حيَّة، ولا حتَّى الشُّهداء. ولكنَّهم سيصبحون مبرَّرين فقط بدم المسيح وبرِّه. أمَّا محبَّة يسوع فاستطاعت أن تُلهب فيهم محبَّةً متجاوبةً حتَّى إنَّهم لم يخشوا حتَّى الموت كي يثبتوا في الشَّركة مع يسوع مخلِّصهم.

الصَّلَاة
نشكرك أيّها اللآب السّماوي، لأنك أرسلت إبنك الوحيد يسوع المسيح إلى عالمنا المتكبّر النجس، ليبرّر التائبين المؤمنين بموته الكفّاري، ليتجددوا بقوّة روحك القدّوس ، فيعيشوا أولادا لك إلى أبد، في راحة َضمائرهم، معك في المجد. قوّ كل مضطهَد لأجل إيمانه بوحدة الثلوث، ليختبر قوّتها وسلامها، وليفضل الموت الجسدي بإمتياز الحياة الأبدية فيه. آمين.
السُّؤَال
ما هي قوّة الإيمان بالمسيح يسوع والسلوك بوصايا محبّته؟ لماذا يطوّب الله ألأمومات الذين ماتوا وهم ثابتون في المسيح؟