Skip to content

Commentaries
Arabic
رؤيا يوحنا
  
5- نهاية بابل الزَّانية
(رؤيا 17: 15- 18)
17:15ثُمَّ قَالَ لِيَ الْمِيَاهُ الَّتِي رَأَيْتَ حَيْثُ الزَّانِيَةُ جَالِسَةٌ هِيَ شُعُوبٌ وَجُمُوعٌ وَأُمَمٌ وَأَلْسِنَةٌ.16وَأَمَّا الْعَشَرَةُ الْقُرُونُ الَّتِي رَأَيْتَ عَلَى الْوَحْشِ فَهَؤُلاَءِ سَيُبْغِضُونَ الزَّانِيَةَ, وَسَيَجْعَلُونَهَا خَرِبَةً وَعُرْيَانَةً, وَيَأْكُلُونَ لَحْمَهَا وَيُحْرِقُونَهَا بِالنَّارِ.17لأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ يَصْنَعُوا رَأْيَهُ, وَأَنْ يَصْنَعُوا رَأْياً وَاحِداً, وَيُعْطُوا الْوَحْشَ مُلْكَهُمْ حَتَّى تُكْمَلَ أَقْوَالُ اللَّهِ.18وَالْمَرْأَةُ الَّتِي رَأَيْتَ هِيَ الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي لَهَا مُلْكٌ عَلَى مُلُوكِ الأَرْضِ.


يشمل تفسير رؤيا يوحنَّا في البرِّية (رؤيا 17: 3- 6) فترات زمنيَّة مختلفة. تحدَّث يوحنَّا أوَّلاً عن النِّهاية المحتومة للوحش ذي الرُّؤوس السَّبعة (رؤيا 17: 7- 11). وأعلن فيما بعد انتصار حَمَل اللهِ على الملوك العشرة الذين اتَّحدوا مع ضدّ المسيح (رؤيا 17: 12- 14). وأخيراً أعلن الرَّسول القادم مِن السّماء النِّهاية الرَّهيبة لبابل الزَّانية (رؤيا 17: 15- 18).
كانت رؤوس الوحش الطالع مِنَ البَحْرِ السَّبعة، التي ترمز إلى الحكَّام المناوئين للمسيحيَّة الذين يظهرون في فترات زمنيَّة مختلفة، قد استحوذت عليهم بابل الزَّانية التي اقتادتهم والوحش معاً بيدها النَّاعمة.
بدا "للعشرة القرون" وعلى نحوٍ مشابهٍ "للرُّؤوس" الذين يمثِّلون جميعاً ملوكاً، أنَّ المرأة في البداية لم تكن معتمدةً مباشرةً على الوحش. نظر تحالف الأمم العشر إليها نظرةً ناقدةً. لم يكن الملوك العشرة مستعدِّين لإخضاع أنفسهم للتَّأثير الماورائي لهذه النَّاصحة الدِّينية، فبدل ذلك حسدوها بسبب نفوذها العالمي النِّطاق. ولعلَّهم بدأوا يُحلِّلون دسائس هذه المرأة فنفذوا إلى توقها لإغناء ذاتها، وفتحوا عيني الوحش الطالع مِنَ البَحْرِ لرؤية الأهداف الفعلية للراكبة عليه والتي كانت الاستئثار بالقوّة كلِّها لنفسها.

صرَّح الملاك ليوحنَّا أيضاً أنَّ "المياه" التي جلست الزَّانية عليها لم تشمل
فقط العلاقات الاقتصاديَّة والمكايد السِّياسية في أماكن معيَّنة على الأرض، بل كانت ثمَّة أيضاً مواجهة امتداد نفوذها وقوَّتها إلى مجموعات النَّاس كلِّها البالغة 1874 مجموعة في الأمم المئة والثلاث والتسعين كلِّها والألسنة البالغة 6528 لساناً (رؤيا 17: 15).
مِن الغريب، وخلافاً للأماكن الأخرى في الرّؤيا حيث تُذكَر القبائل (أسباط بني يعقوب) مع الأمم والشُّعوب (رؤيا 5: 9؛ 7: 9؛ 10: 11: 11: 9؛ 13: 7؛ 14: 6)، أنَّ هذه الآية لم تذكر أسباط شعب العهد القديم الاثني عشرة، بل ذكرت ببساطةٍ "الجموع" مشيرةً إلى مجموعات أصغر مِن الناس في إسرائيل. هل أصبحت الأسباط الاثنا عشر نفسها هي بابل الزَّانية مُضِلَّةً جميع الأمم ومؤمنةً فقط بقوّة المال وشريعة موسى، وليس بإنجيل المسيح؟ كان اليهود الذين بقوا في بابل قد انفتحوا لمبادئ الثَّقافة البابلية وقوَّتها. كان يُفترَض ببابل أن تُمثِّل "الباب إلى الله"، بَيْدَ أَنَّها أصبحت الباب الخلفي للشَّيطان. ومنذ ذلك الحين لم تُدرَّس التَّوراة وحدها بعدُ في معظم معابد اليهود (الكُنُس)، بل وجد التَّلمود والمشنا أيضاً طريقهما في التَّفاسير. هل أصبحت يهوديَّة ما بعد السَّبي، بحجبها كلمة الله الأصليَّة، مُضِلّةَ الأمم رافضةً يسوع كلمة الله المتجسِّد؟
كذلك الكاثوليك والأرثوذكس لا يُروِّجون للشَّريعة والإنجيل فحسب، بل لتعليم آباء كنيستهم أيضاً. مَنَعَ الكهنة والرَّاهبات، لمدَّة قرونٍ، المؤمنين في كنائسهم مِن قراءة الكِتَاب المُقَدَّس على نحوٍ إفراديٍّ. لقد ساهمت تيارات مشوشة مِن ورع شعبي، وتأليه لمريم، وشرائع كنسيَّة صارمة، في فصل أعضاء هذه الكنائس عن كلمة الله الحقيقيَّة. الشعب اليهودي المصاب بعدوى التَّلمود، والمسيحيون الذين استحوذت عليهم عبادة مريم، والبروتستانتية الملوَّثة بالمذهب العقلي تؤثِّر سلباً في شعبها وتُبعدهم قصداً ومِن غير قصدٍ عن الإنجيل الصِّرف.
حاولت الكنيسة الكَاثُوْلِيْكِيَّة لمدَّة قرونٍ، بالاعتراف القسري والتهديد بالحرمان مِن الكنيسة والعقوبات الصَّارمة، أن تُخضع الأباطرة والملوك وأساتذة الجامعات والمدرِّسين وتحكم عليهم. كان على الإمبراطور فردريك بارباروسا أن يُلقي بنفسه على الأرض أمام البابا ألكسندر الثَّالث (1159- 1181) بعدما تغلَّب جيش البابا على قوّة فردريك الأوَّل العسكريَّة قرب فينيسيا. وعندما طلب الإمبراطور المُهان المُلقى على الأرض الغفران مِن البابا، وضع الأخير قدمه على عنقه. وفي اليوم التَّالي كان على الإمبراطور أن يُقبِّل قدم البابا.
الصّلاة: أبانا الذي في السماوات، نشكرك لأنك فوّضت بولس الرسول والمصلح مرتين لوثرم بإسم المسيح، ليرشدانا إلى الإنجيل الأصلي. فليس الكهنة والقسوس ولا الأساتذة ينشئون خلاصنا، ولا يغفروا لنا خطايانا إذ إعترفنا أمامهم كل ذنوبنا، بل كلمتك القوية تخلصنا وتعزينا وتثبنا في ملء نعمتك. آمين.

لم يؤثِّر حكم بابل الزَّانية حتَّى الآن إلاَّ في ثلث سكَّان الأرض. إنَّ ثلثي البشر ليسوا مسيحيين. إذا كان الزُّعماء العشرة المتحالفون مع ضدّ المسيح هم مِن بلدانٍ غير مسيحية فلن يخضعوا لأيِّ نفوذٍ بابويٍّ أو بطريركي. ترفض البلدان غير المسيحيَّة عموماً المؤسَّسات الكنسيَّة إلاَّ عندما تحتاج إلى تبرُّعات وعمَّال مهرة للمساعدة على حفظ مجتمعها المتخلِّف والجائع في مأمنٍ مِن المحنة والبلاء، فثروة الكنائس الطَّائلة التي تفوق الوصف هي شوكةٌ في أعينهم. وكما كان الأمر مع محمَّد ذات مرَّةٍ، يأملون هم أيضاً أن يُخفِّفوا مشاكل تعاظم سكَّانهم مِن الفائض المكتسب مِن الأملاك الكنسيَّة. إنَّ تذمُّر الأمم غير المسيحية والشُّيوعية مِن هيمنة الكنائس مستمرٌّ ومِن الممكن أن يتمخَّض، تحت حكم ضدّ المسيح، عن انفجارٍ.
أعلن ملاك الدَّينونة ليوحنَّا أنَّ الوحش الطالع مِنَ الهَاوِيَةِ السَّحيقة، إضافةً إلى العشرة القرون، سيبغضون بابل الزانية المتسربلة بالقرمز التي كانت قد ولدت الوحش واستغلَّته لغايات الدعاية (رؤيا 17: 16). سيُقنع حلفُ الملوك العشرة ابنَ الشيطان أنَّ العاهرة الماكرة تسعى إلى السَّيطرة على العالم لنفسها فقط وليس لأيِّ شخصٍ آخر، وأنَّها قد أصبحت أقوى منه نفسه. لذلك سيُقصي الوحش نفسه عن راكبته، فيرميها عن ظهره، ويُعلن أنَّها صيدٌ حلالٌ لمَن يشاء. أمَّا الزَّانية التي خطب ودَّها كثيرون في الماضي فيتخلَّى الجميع عنها فجأةً وتُترك وحيدةً.
بمعزلٍ عمَّن أو عن أيِّ جهةٍ يمكن أن تمثِّلها الرَّاكبة على الوحش الأحمر القرمزي، سواء كانت اليهوديَّة الأرثوذكسية "المُعَلْمَنَة"، أو المشبعة بروح التجارة والمجازفة، ثمَّة أمرٌ أكيدٌ: إنَّ كلَّ مَن يُدير الأمم ويستغلّها بواسطة المال والذَّكاء والأكاذيب واللوبي (جماعات الضَّغط التي تحاول التَّأثير في أعضاء الهيئات التَّشريعية) سيُرمى به كراكبٍ متغطرسٍ ويُترَك فريسةً للنَّهب. حيثما يعمل اليهود المتديِّنون أو العلمانيُّون، على حدٍّ سواء، أوَّلاً وقبل كلِّ شيءٍ لأجل حكَّامهم وأرباب عملهم وملوكهم كصانعي مال وعباقرة ماليين، ستقوم بغضة الأسياد والحكَّام المعوِّلين عليهم في يومٍ مِن الأيَّام لتتبرَّأ منهم وتلعنهم.
يكشف سفر الرّؤيا لنا أنَّ الملوك العشرة المتحالفين والوحش الطالع مِنَ الهَاوِيَةِ سينهبون المرأة معاً. سيكون جبروت هذه الزَّانية ونفوذها قد صارا عظيمَين حتَّى إنَّ أحداً مِن الأسياد لن يجرؤ وحده، سواء سرّاً أو علانيةً، على مهاجمتها. سيهجمون معاً على العاهرة الوحيدة التي كانت قد استغلَّتهم سابقاً ليسرقوها ويفضحوا عارها وأخيراً يقتلوها. لن يكون هؤلاء الملوك أسياداً بعد على حياتهم، فالشَّيطان وجميع أبالسته سيكونون قد جرّوهم إلى وليمة معركة أمِّ الزواني ورجاسات الأرض.
إذا كان العشرة الملوك إرواحيِّين فسيأكلون حَرْفِيّاً كبد الزَّانية وقلبها
وطحالها حتَّى ينتقل مكرها وحكمتها وبأسها إليهم (ميخا 3: 2- 3؛ 2 ملوك 9: 33- 37).
وأخيراً يحرقون بقايا الجثَّة فلا يبقى شيءٌ مِن المُضِلَّة العظيمة حتَّى عظامها. لن يكون ثمَّة جنازةٌ أو دفنٌ. وسيُطمَس كلُّ ذكرٍ لهذه الزَّانية كلِّياً.
لقد هجرت الزَّانية الله وفتحت قلبها للشَّر. لم تحبّ أحداً، ولم يُحبّها أحدٌ. وفي النِّهاية ارتدَّت مكايدها الشِّريرة عليها كدينونةٍ إلهيَّةٍ.
الصّلاة: أيّها الآب السماوي، لم يقترب إبنك يسوع المسيح بأسياد الساسة ولا بأحبار أمّته، ولم تزلف إليهم. ولشفاءاته العجيبة لم يطلب دفعا، بل فضل أن يعيش مكتفيا ومقتنيا فأبغضوه الزعماء وصلبوه، إنما قام من بين الأموات، وروحك القدّوس يمنح للمؤمنين به المتواضعين في كل دولة ولغة وسبط وشعب الحياة الأبدية. آمين.

تظل مشيئة الله وعمله غالباً مستترَين عن أعيننا، فمنطقه روحي ومقدَّس لا ينسجم دائماً مع مفهومنا الإنساني (رومية 11: 33- 36). يعرف الخالق كلَّ شيءٍ مسبقاً، وهو القدير العليم الكلي الحكمة (متَّى 10: 29- 31). إنَّه يعرف الذي يعطي مكاناً لمحبَّته ويحفظ الرَّحمة إلى ألوفٍ (خروج 34: 6- 7). يُتِمُّ الله خلاصه بسلطانٍ في حياة الأفراد وفي أممٍ بأكملها. ليست ثمَّة مصادفةٌ في بناء ملكوته (مزامير 103: 6- 13). ودعوتنا في المسيح هي دائماً مِن النِّعمة (أفسس 1: 4- 5؛ رومية 8: 28- 30) التي تحقِّق ذاتها في دعوتنا مِن مجتمعنا وقبولنا أو رفضنا خلاصه.
كذلك الأمر بالنِّسبة إلى غضب الله ودينونته. يعرف الرّبّ مسبقاً الذي يبغضه والذي لا يعطي مكاناً لمحبَّته، فيُعاقبه هو ونسله إلى الجيل الرَّابع (خروج 34: 7). ويدع الأشرار الذين لا يريدون أن يتوبوا والذين قاوموا باستمرارٍ قوّة الرّوح القُدُس الجاذبة يمضون قدماً في بؤسهم، ويُسلمهم إلى انتحارهم (رومية 1: 18- 31).
يسمح الرّبّ للملوك العشرة الذين استحوذت عليهم مشيئة الوحش الطالع مِنَ الهَاوِيَةِ أن يُهلكوا الزَّانية التي خدموها مِن قبل (رؤيا 17: 17)، فيُنفِّذون عملهم هذا في غضب الشِّرير المدمِّر مسوقين مِن قبل الشَّياطين وهم ممتلئون غضباً.
كان الملوك العشرة قد تخلَّوا عن ملكيَّتهم ومسؤوليَّتهم لابن الشَّيطان. ولذلك استطاعت أبالسته أن تجبرهم على إهلاك الزَّانية المغرورة. وأسلمها غضب الله إلى الهلاك التَّام على يد أعدائه، وبذلك لم يقاوم أيٌّ منهم مشيئة الله، بل تحالفوا معاً بمحض اختيارهم مع الشِّرير.
إنَّ كلام الله كلَّه يتحقَّق باستمرارٍ. لقد وضع الآباءُ وموسى أمامَ شعبهم خيار البركة أو اللَّعنة (تكوين 48: 13- 20؛ 49: 1- 20؛ تثنية 11: 26- 32؛ 30: 1- 20)، إنَّ تاريخ شعب إسرائيل المتقدِّم باستمرارٍ هو إشارةٌ مستمرَّةٌ إلى أمانة إله عهدهم. وفي حياة يسوع المسيح، في صلبه، وفي قيامته، وفي انسكاب روحه القدّوس على أتباعه المصلين، تمَّت وعودٌ كثيرةٌ مِن وعود العهد القديم. وأمْرُ الله لشعبه أن يكونوا قديسين كما هو قدّوس يثبت مرَّةً تلو الأخرى (لاويين 11: 44؛ 19: 2).
إنَّ تعامل الله المُثَلَّث الأَقَانِيْمِ ووصاياه السَّارية أبداً هي أساس تاريخ العالم.
ومشيئته متمَّمةٌ. إمَّا أن ندعه يحوِّلنا ويجعلنا بركةً للآخرين، أو أن يدعنا نستمرُّ في أنانيتنا حتَّى نهلك ليس أنفسنا فقط بل الآخرين أيضاً. هو أبونا، ولا يحدث شيءٌ بمعزلٍ عن مشيئته المُحِبَّة. وستُظهِر الأَيَّام الأَخِيْرَة للوجود أيضاً أحكامه العادلة ونعمته التي لا تنضب (متَّى 25: 31- 46).
الصّلاة: أيّها الآب السماوي، أنت القدّوس والقدير والعليم والحكيم. نسجد لك، ونلتمس منك غفران خطايتنا. طهرنا قولا وفكرا وعملا.، لكي يملأنا روحك القدّوس لنتغير إلى صورتك. إرحم كثار من الملبوسين بروح الدّجّال ليتحرروا منه ويمجدوا نعمتك بفرح وشكر. آمين.

قال ملاك الدَّينونة في اختصاره سرَّ بابل الزَّانية العظيمة إنَّ رؤيا المرأة الجالسة على ظهر الوحش في البرِّية لا تمثِّل سوى جانب واحد لقوَّتها الرّوحية. الجانب الآخر مبيَّنٌ بإسهابٍ مِن خلال اسم روما المميَّز "المدينة العظيمة". لقد زحفت جيوش روما في الحقيقة لتُدمِّر اليهوديَّة وأُوْرُشَلِيْم والهيكل الثَّاني. والأكثر مِن ذلك كانت المجزرة التي ارتكبها نيرون لا تزال حيَّةً في ذاكرتهم حيث أدَّت اتِّهامات اليهود المتعصِّبين وشكاواهم إلى قطع رأس بولس وصلب بطرس وقتل آلاف المسيحيين تحت أقسى أنواع التَّعذيب الوحشي.
لا يمكن وصف ظاهرة ضدّ المسيح ونبيِّه الكذَّاب وزانيته الماكرة بمجرَّد رمزٍ. بدءاً مِن هذه الآية في سفر الرّؤيا تحلُّ صورة المدينة العظيمة (رؤيا 17: 18) محلَّ صورة هذه المرأة. إنَّ معنى "روما" حرفيّاً هو "العظيمة، الجبَّارة" المدينة التي تتجمَّع فيها المعرفة والقوّة والمكيدة والأرواح معاً عاملةً بعضها مع بعض وضدّ بعضها البعض. ينبغي لكلِّ مَن يقرأ الاسم "بابل"، اعتباراً مِن هذه النُّقطة سفر الرّؤيا، أن يُفكِّر في روما أيَّام القياصرة.
لا شكَّ أنَّ الشَّيْخ الجَلِيْل يوحنَّا باستخدامه العبارة "روما" لم يكن يشير إلى الكنيسة الكَاثُوْلِيْكِيَّة التي كانت لا تزال تعمل على إثبات وجودها في سراديب الموتى تحت أرض روما لمائتي سنة بعد. أضف إلى ذلك أنَّ الكنيسة في ذلك الزَّمان لم يكن لها أيُّ نفوذٍ سياسيٍّ أو احترام في أوساط المجتمع.
لعلَّ يوحنَّا قد سمع في أفسس وفي جَزِيْرَة بَطْمُس عن يهودٍ كثيرين في روما ممَّن قاوموا الإنجيل، كسابق عهدهم، وتمسَّكوا بشريعة موسى، فرفضوا بذلك يسوع كابن الله (أَعْمَال الرُّسُلِ 28: 21- 29). ونُقِل أنَّ بعضهم وشى بالمسيحيين إلى السُّلطات الرُّوْمَانِيَّة بغية استئصال هذه "الطَّائفة اليهوديَّة" ووقف انتشار انتشارها. ولعلَّ يوحنَّا أيضاً قد أشار إلى هؤلاء المتعصِّبين الذين كانوا في ذلك الزَّمان يحاربون المسيح وكنيسته جنباً إلى جنبٍ مع الملوك والقياصرة، فوصفهم بعاهرة بابل في روما.
في جميع الأحوال، انقسمت روما التي في زمن يوحنَّا فيما بعد نتيجة الهجرات السَّكانية الجماعيَّة. وعلى أطلال روما القديمة شرعت الكنيسة الكَاثُوْلِيْكِيَّة في بناء قوّة عالميَّة دينيَّة – سياسيَّة، فأمسكت بزمام السَّياسات العالمية ما يزيد عن 1000 عام.
ولكنَّ الوضع تغيَّر نتيجة الإصلاح ومع اكتشاف الطُّرق البحريَّة المؤدِّية إلى الهند والأمريكتين. وكان للأفكار في فلسفة مُطْلَقَة مِن الله وكذلك الثَّورة الفرنسيَّة تأثير أبعد في تقويض قوّة الكنيسة الكَاثُوْلِيْكِيَّة. ولا تزال الكنيسة اليوم تضمُّ بليون عضو، إلاَّ أنَّ هذا المجموع لا يشكِّل سوى سدس عدد سكَّان العالم.
هاجر السَّكان اليهود إلى مراكز جديدة للقوّة في بلاد ما بين النَّهرين وإسبانيا وإستانبول وباريس ولندن وفيينا وموسكو ونيويورك. وباتوا لا غنى عنهم في إدارة الحكومات القائمة بفضل فطنتهم ومقدرتهم العمليَّة وبصيرتهم الإدارية. في الإِمْبرَاطُوْرِيَّة العثمانيَّة احتلَّ اليهود مراكز قياديَّةً في الاقتصاد والسِّياسة، وقد تكرَّر هذا الوضع مؤخَّراً مِن خلال اتِّفاقية تعاون بين تركيا وإسرائيل. وفيما يخصُّ الوضع في أمريكا، يقال إنَّ الرَّئيس الأمريكي الأسبق كلينتون كان لديه 60 إداري يهودي في جهاز حكومته. وقد احتفظ خَلَفُه جورج بوش بثلث هذا العدد. تُعْرَف نيويورك بأنَّها أكبر مدينة يهوديَّة في العالم يتجاوز سكَّانها اليهود يهود إسرائيل في عددهم. يسيطر الاختصاصيون اليهود، بمهارتهم وقدرتهم على اتِّخاذ قرارات عمليَّة سريعة وخيالهم الواسع وإبداعهم، على الجامعات والصِّحافة وصناعة الأفلام والتلفزيون في أمريكا. ولكنَّ أكثريَّة اليهود، كما في السَّابق، ترى في يسوع النَّاصري المصلوب تزييفاً وسوء فهمٍ لدعوتهم وتاريخهم الحقيقيَّين. وهم في كلِّ مناسبةٍ، وبقَدْر الإمكان، يقاومون كلَّ نفوذٍ مسيحيٍّ، كما في أمرهم إلغاء تدريس الديّانة المسيحيَّة في المدارس الحكوميَّة.
دُفع بتفسيرٍ مغايرٍ كلِّياً "للمدينة العظيمة" على أثر استدعاء صدَّام حسين إلى الأمم المتَّحدة، منذ أعوامٍ مضت، الذي طالب فيه الجماعة الدَّولية بإعادة بناء بابل القديمة. انطلق التفكير المدفوع دينيّاً فجأةً كالصَّواريخ في الفضاء. كان ممكناً في هذه الحالة إقامة مركز عقل إلكتروني متفوِّق لجميع أمم الأرض في بغداد. كما كان ممكناً مِن ضمن الأشياء الأخرى ضم المراكز ومكاتب التسجيل العالمية اللاَّحقة وتنسيقها هناك: إدارة الاقتصاد العالمي، ضمان الجو الدولي، مركز لمقاومة الوباء والأمراض، البحث العلمي، نظام قضائي كوني، إضافةً إلى إقامة ثقافة عالم جديد في إطار دين عالمي هو مزيج مِن الأديان والمعتقدات المتضاربة ومبني على حقوق إنسانيَّة موَسَّعَة.
يرى آخرون أنَّ في نهاية الزَّمان ستصبح أُوْرُشَلِيْم مركز القوّة السِّياسية والعسكرية لضدّ المسيح التي سيحكم منها العالم بعصا مِن حديد. وسيواصل نبيُّه الكذَّاب والزَّانية العظيمة تلقيم هيئة الخبراء والتَّحكم بهم مِن بابل. ولكن سيُدرك ضدّ المسيح في أحد الأيَّام أنَّ المركز الذي في بابل قد أصبح قويّاً جدّاً. وسيردُّ بضربةٍ واحدةٍ ليبيد مكان تجمُّع الذَّكاء والسِّحر ربَّما باستخدام قنبلة هيدروجينية أو نيوترونية.
بابل هي اليوم موضع اهتمامٍ كبيرٍ، باعتبارها المكان الذي تُدار فيه القوى الدُّنيوية بمشيئة ضدّ المسيح. لا يظهر ضدّ المسيح كشخص مفرد، بل هو روح شيطاني لا يحدُّه زمانٌ ويكون باعثاً مرَّةً تلو الأخرى على قيام أضدّاد جدد للمسيح متعطِّشين للقوّة.
وكذلك بابل الزَّانية ليست شخصاً مفرداً، بل هي روح نجس مستكبر يحشد سلسلة مستشارين دينيين ماكرين في الكُنُس والكنائس التي تقود الحكَّام إلى التَّمرد على الله ومسيحه. وكما تظهر المرأة المتسربلة بالشَّمس صورةً للجماعة الحقيقية والمؤمنة في العهدين القديم والجديد على حدٍّ سواء (رؤيا 12: 1- 6؛ 13- 17)، هكذا مثَّلت بابل الزانية العظيمة في رؤيا يوحنَّا نقيضها تماماً. لم يبقَ أتباعها الليبراليون والمتعصِّبون أيضاً مِن يهودٍ ومسيحييِّن، على حدٍّ سواء، أمناء لكلمة الله، بل مزجوا الحقَّ بالأكاذيب وكيَّفوا أنفسهم مع العالم الشِّرير وطريقته في الحياة. نفخ ملهمهم فيهم نار بغضٍ لحَمَل اللهِ وأتباعه وحرَّض أقوياء هذا العالم على القتال لإبادة المسيح الآتي. في آخِر الزَّمَانِ ستعود المعركة التي تضمُّ هذه الأرواح إلى نقطة بدايتها، إلى أُوْرُشَلِيْم. ليست بابل أو روما المركزين السِّريين لهذا العالم، بل صليب ابن الله في أُوْرُشَلِيْم. يظلُّ هذا الصَّليب العثرة العظيمة الذي ستتحطَّم فيه جميع القوى غير المسيحيَّة إرباً إرباً (1 كُوْرِنْثُوْس 1: 18- 24).

الصَّلَاة
أيّها ألآب السماوي، تنمو بغضة المطماعين الى السلطة، ضدّ المسيج الوديع وضدّ أتباعه المتواضعيين في أيامنا. ولكن إن عاش الحكام في رومة أو نيو يورك أو موسكو أو بيكين أو القدس فملكوتك الرّوحي يأتي حتما ولتكن مشيئتك يقينة وسوف تنكسر الدول العظماء في حمل الله الحنون. آمين.
السُّؤَال
كيف مُنعت أكثرية اليهود وبعض المسيحيين عى التعمق في كلمة الله الأصلية الصافية؟ ما هي الكنوز الرّوحية التي تسلمنا كلمة الله الحية الفعالة؟ لماذا سيتقتل زعماء الشعوب معا بابل زانيتهم؟ لماذا أوحى الله للملوك العشرة أن يهاشموا معا ألزانية وأعلن هذه الدينونة مسبقا؟ لمذا يتحقق خلاص الله ودينوناته المعلنة مسبقا حتما؟ كيف ندرك الزعماء المضادة للمسيح وزانتهم ونبتعد عنهم بالحكمة؟