Skip to content

Commentaries
Arabic
رؤيا يوحنا
  
2- انبثاق عالَمٍ جديدٍ
(رؤيا 21: 1)
21:1ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً لأَِنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ.


تكلَّم الشَّيخ الجليل كما في غيبوبةٍ حين قال: "رَأَيْتُ" وكانت هذه الكلمة قد عبرت شفتيه في (رؤيا 20: 11) عندما رأى يَسُوْع في مجده ديَّاناً لجميع النَّاس في الدَّيْنُوْنَة الأخيرة. وصف يُوْحَنَّا بكلماتٍ قليلةٍ ما رآه. ورؤاه تتجاوز كلَّ السّؤال. فهي تلقي الضَّوء على أعمال الله وحَمَله في الأمس والآن وإلى الأبد.
ماذا رأى الرَّائي؟ رأى انبثاق فجر عالمٍ جديدٍ.. تعرَّف بعالمٍ أبديٍّ مقدَّسٍ، حيث كلُّ شيءٍ جديد وخالٍ مِن كلِّ عيبٍ وتامّ. فأشرق الوجود المقبل أمامه بكامل مجده.

رأى الشَّيخ الجليل أوَّلاً سماءً جديدةً، فلم يميِّز بين قبَّة السَّماء الزَّرقاء المرصَّعة بنجومٍ لا تُحصى والسَّماء الرُّوْحية غير المنظورة لنا. وأدرك يُوْحَنَّا أنَّ السَّماء المقدَّسة، وليس أرضنا الخاطئة، هي التي ستُجدَّد أوَّلاً. وكان روح الشَّيْطَان، روح العاصي والكذَّاب والمشتكي لا يزال يستحضر بحضور الله وحَمَله ذكرى مزعجة. فآلاف الملائكة انساقوا بوحي الشِّرير وخداعه (رؤيا 12: 4، 10- 12). ولكن فِيْ السَّمَاءِ الجَدِيْدة لا وجود لرائحة النَّجاسة والعصيان.
بعدئذٍ رأى يُوْحَنَّا كيف أبدلت أرضنا الصَّغيرة بخليقةٍ إلهيَّةٍ جديدةٍ. لا يتحدَّث الرَّائي عن إعادة تعليمٍ أو تقدُّمٍ عالميٍّ (مَزْمُوْر 51: 12- 13)، بل يشهد لعالمٍ جديدٍ تماماً. وهو بذلك لا يشرح هل هذا العالم الجَدِيْد مؤلَّفٌ مِن ترابٍ وحجارة ومواد أخرى معروفة، أم إنَّه سيوجَد بجسمٍ روحيٍّ كذاك الذي قام به يَسُوْع المَسِيْح مِنْ بَيْنِ الأَموَاتِ. لم يكتب يُوْحَنَّا سوى ما رآه: أرض جديدة.
الصّلاة: أبانا الذي في السَّماوات، لا تزال عندك إمكانيات حيث لا حلول عندنا بَعْدُ. عِلمُك قدير. فأنتَ لا تُصلح خليقتك الساقطة في الفساد، بل تخلق سماء جديدةً وأرضاً جديدة. نُعَظِّمكَ لأجل قُدرة محبَّتك العظيمة، ونؤمن بأنَّك تَحفظنا، نحن أولاد روحك القُدُّوس في هذا التَّغيير الجوهري. آمين.

لقد غطَّت محبَّة المَسِيْح ورهافة رسوله، في هذه الرُّؤْيَا لبدء عالمٍ جديدٍ، إفلاس الخليقة القَدِيْمة وعارها. فالخليقة الكائنة حتَّى الآن قد فشلت كلُّها. وجميعنا أسهَمْنا في البؤس الذي عَلَى الأَرْضِ والفساد المتزايد. الجوُّ المحيط بكرتنا الأرضيَّة ملوَّثٌ بالشَّياطين. الإعلانات الفاسقة توهم بالحرِّية الجنسيَّة والمتعة غير المحدودة. وإذ يبتسم رئيس هذا العالم ابتسامة الاغتباط بالنَّفس يُبقي عبيده الذين تميل قلوبهم إليه منذ حداثتهم في مقاود يتحكَّم بها كما يشاء. لقد أراد هؤلاء المدعوُّون صور الله أن يكونوا أكثر استقلاليَّةً وأكثر انعتاقاً مثل الله فثاروا على خالقهم وعلى وصاياه. ولكنَّهم بدلاً مِن الاستقلال والتَّحرر استُعبدوا للشَّيطان وسقطوا أعمق فأعمق. وحتَّى الأَلْف السَّنَةِ لم تقدر أن تهدي جميع القلوب، بل كشفت شدَّة تأثُّر الجماهير بأكاذيب الشَّيْطَان: فرحَّبوا بالمجرِّب والمُضِلِّ مِن جديدٍ.
لا يقدر أحدٌ أن يُحبَّ ويدين على هذا النَّحو الجذري غير الله وابنه (يُوْحَنَّا
5: 21- 30). فالثَّالُوْث الأَقْدَس لا يطيق أيَّ أثرٍ للنَّجاسة والكذب والعصيان والبغضة. ولقد أدرك الرَّائي مِن قبل (رؤيا 20: 11) أنَّ السَّماء والأرض هربتا مِن وجه الدَّيان القدُّوس؛ فاختفتا في اللاَّنهاية وذابتا في لاشيء. وحتَّى المكان الذي جلس فيه يَسُوْع مع أبيه على عرشه (رؤيا 3: 11) كان ينبغي له أن يزول. العالم الجَدِيْد أقدس وأمجد وأعطف وأطهر مِن السَّماء السَّابقة. سيرى أبناء وبنات الله المولودون ثانيةً بدم المَسِيْح وروحه، المدعوُّون والمختارون مِن البشريَّة الفاسدة، في كيانهم الجَدِيْد كعائلة الله (أفسس 2: 19- 21)، ويختبرون خلق السَّماء والأرض الجَدِيْدتين حيث سيُطهِّر مجد الله آخر بقيَّةٍ مِن شرِّهما ويحرقها. يوصي الرّبّ في كلِّ زمانٍ: تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ, لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ (اللاَوِيِّيْنَ 11: 44- 45؛ 19: 2؛ وآيات أخرى). شرح يَسُوْع هذه الوصيَّة وقال إنَّه ينبغي أن نكون رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَانَا أَيْضًا رَحِيمٌ (لوقا 6: 36). واختصر وصاياه البالغة حوالي 1000 وصيَّة المعطاة في الإنجيل في وصيَّتين اثنتين: فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ (متَّى 5: 48)؛ وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضا (يُوْحَنَّا 13: 34).
اليوم يبزغ فجر خليقةٍ جديدةٍ في أولاد الله: إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي المَسِيْح فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا (2 كُوْرِِنْثُوْس 5: 17). رأى يُوْحَنَّا وهو محبوس الأنفاس وبعينين محملقتين السَّماء المقدَّسة الخالية مِن الخطيئة، والأرض الجَدِيْدة تنبثقان ببهائهما السَّاطع.
الصّلاة: أَيُّهَا الآبُ السَّمَاوِيّ والرّبّ يسوع المسيح، نقرأ ونسمع بلهفةٍ وشوقٍ أنَّك ستخلق سماءً جديدةً لا تشوبها شائبةٌ وخاليةٌ من أي خطيئة، وأرضاً جديدة مملوءةً بِرّاً وسلاماً. انزع البقيَّة الباقية من الاستكبار والأنانية من قلوبنا وأذهاننا. ليتقدَّس اسمُك في سلوكنا، ولتكُنْ مشيئتُك في تصرُّفاتنا. آمين.

كان يَسُوْع نفسه قد تنبّأ قائلاً: اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ، وَلَكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ (متَّى 24: 35). وعرف يُوْحَنَّا أيضاً واعترف قبلاً أنَّه ينبغي للأرض الحاليَّة أن تزول. وعندما رأى الرُّؤْيَا عنها لم يصف كيف تزول السَّماء بضجيجٍ عظيمٍ وتنحلُّ عناصر الأرض بحرارةٍ شديدةٍ (2 بطرس 3: 7- 13)، بل يذكر فقط في جملةٍ تابعةٍ مستخدماً صيغة الماضي النَّاقص أنَّ السَّماء والأرض مضتا وحلَّ محلَّهما عالمٌ جديدٌ وأفضل.
ينبغي أن نتوب لأنَّه ذنبنا أيضاً أن يهلك الخالق أرضه الجميلة والرَّائعة. إنَّ أرضه الكائنة حتَّى الآن ملآنةٌ حكمةً وترتيباً إلهيّاً ومبادئ في أحسن حالٍ، وتعمل خليقته فيها بقوَّةٍ عظيمةٍ. لقد خلق نور الشَّمس، ويأتي ببرد الشِّتاء والحشائش والأزهار والثِّمار والحيوان والإنسان بتنوُّعٍ كبيرٍ. ولكنَّ الإنسان لم يُحافظ عَلَى الأَرْضِ التي ائتُمن عليها (تكوين 1: 28- 29؛ 2: 8، 15) بل أفسدها كلِّياً. فقتل أخاه (تكوين 4: 8؛ متَّى 5: 21- 25؛ 1 يُوْحَنَّا 3: 15). وليست حقيقة تسمُّم الهواء والمحيطات اليوم وتلوُّثها بشوائب المصانع ومياه البواليع سوى دلالة خارجيَّة على فسادنا الدَّاخلي. إنَّ التَّكاثر المفرط في عدد سكَّان الأرض والتقنيات الحديثة تضاعف اليوم شرَّ الناس العامل باستمرارٍ.
العالم القَدِيْم فاسدٌ على نحوٍ ميئوسٍ منه، وهو ناضجٌ للدَّينونة. لا نفع للدِّيمقراطيَّة ولا لأيِّ نظامٍ عالميٍّ جديدٍ. وكلُّ خطَّةٍ لإحداث تحسيناتٍ هي بمثابة أضغاث أحلامٍ وأوهام ستنفجر. ولذلك قرَّر الله وحَمَله إنهاء المنظومة الكونيَّة السَّابقة لإفساح الطَّريق لوجودٍ جديدٍ أبديٍّ أفضل وأقدس. ويبقى انبثاق العالم الجَدِيْد ثمرة موت المَسِيْح الكَفَّارِيّ وقوَّة روحه القدُّوس.
كان على يُوْحَنَّا أن يراقب كيف مضت الأرض القَدِيْمة الجيِّدة، وكيف توقَّف وجودها وزالت بدون أثرٍ. ولكنَّ رسول المَسِيْح لم يأسف للماضي كما اعترف قبلاً: لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ.... وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ (1 يُوْحَنَّا 2: 15- 17).

لم يُظهر يُوْحَنَّا سوى وجه وحيد مِن رؤياه لنهاية العالم وانبثاق كيان جديد: الْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ. ولعلَّه لم يقصد أنَّه لن يكون ثمَّة ماءٌ في الخليقة الجَدِيْدة وكأنَّه يوجد بدون ندى وغيوم ومطر وسواقٍ وأنهار ومحيطات. على العكس كان العلماء قبل 2000 سنة يحسبون الأرض مستقرَّةً في بحرٍ أوَّليٍّ يحملها. وكان الناس يخشون أذى الوحوش والشَّياطين الذين في أعماق هذا البحر غير المكتشفة وظهورهم مرَّةً تلو الأخرى وذهابهم إلى البرِّ (رؤيا 13: 1) لإيقاع الضَّرر بين الأمم. ومهما يكن فإنَّ الأرض الجَدِيْدة لا تستقرُّ على بحرٍ مسكونٍ بالشَّياطين، بل إنَّ الشَّيْطَان وأتباعه سيُعذَّبون إلى الأبد في بحيرة النَّار، والأرض الجَدِيْدة تضطجع بأمانٍ في يد مخلِّصها (يُوْحَنَّا 10: 27- 31).

الصَّلَاة
أبانا السَّمَاوِيّ الصبور، نخجل ونبكي، لأنَّ أرضنا تسيطر عليها الحروب الفتَّاكة والأوبئة المميتة، وكبرياء الأنانيين، منشئة بغضة وغيظاً مع يأسٍ ورُعبٍ. يموت الملايين من الجوع والفقر، بينما يعيش الأغنياء في البحبوحة والرُّغد، ويزداد تأثير الأرواح النجسة في الجماهبر. اغفر لنا ذنوبنا، وعدم اهتمامنا بالمساكين، وقدِّسنا للمستقبل الأفضل الممتلئ بنعمة رحمتك. آمين.
السُّؤَال
لماذا لا يُصلح اللهُ العالم القديم، بل يخلق كوناً جديداً؟ لماذا ينبغي أن يزول الكونُ الكائنُ حتَّى الآن؟ ما هي صفات وقوانين السماء الجديدة والأرض الجديدة؟ لماذا يكتب يوحنا الرسول: لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ؟